وسط دخان أسود كثيف يلف سماء حي المنيل الهادئ في القاهرة، وحالة من الذعر اجتاحت سكان المنطقة، التهمت النيران أسرة بأكملها في حادث مأساوي لا يمكن تصديقه. شقة صغيرة في الطابق الحادي عشر كانت مسرحًا لهذه الكارثة التي نتجت عن ماس كهربائى، حيث عاش نائب مدير بنك الإسكندرية، طه، مع زوجته نوهير، مدرسة الشؤون الاجتماعية، وابنهما الوحيد أحمد، وجدته المسنة المريضة بالسرطان. «سيبوني أدخل، أمي وجدتي جوه!» في تلك الليلة التي بدأ فيها كل شيء، الساعة كانت تقارب الثامنة والنصف، والشارع يعجّ بالهدوء المعتاد. فجأة، انطلقت صرخات مدوية قادمة من الطابق الحادي عشر، ومعها أعمدة الدخان الكثيفة التي غطت سماء المنطقة. محمود حلمي، أحد سكان العقار، يتحدث عن اللحظة الأولى للحريق قائلًا: «النار بدأت فجأة، الناس كلها جريت، كلنا حاولنا ننقذ الأسرة، لكن النيران كانت سريعة جدًا، الأهالي من المنيل القديم والجديد تجمعوا، لكن لم يكن هناك سبيل للوصول إليهم. النار أكلت كل شيء في لحظات». كان الابن الوحيد، أحمد، شاهدًا على الكارثة من بدايتها حتى نهايتها. صبي في السادسة عشرة من عمره، لا يزال يحمل براءة سنواته الأولى، لكن مشهد والديه وجدته وهم يصارعون النيران سيظل محفورًا في ذاكرته إلى الأبد. حاول أحمد، رغم قلة حيلته، أن يفتح باب الشقة لإنقاذهم، لكن النيران كانت أقوى، الجيران أمسكوه بالقوة ومنعوه من الدخول، بينما وقف يصرخ بأعلى صوته: «سيبوني أدخل، أمي وجدتي جوه!». مشهد أبكى كل من رآه نوهير، مدرسة الشؤون الاجتماعية في إحدى المدارس الثانوية، كانت معروفة بابتسامتها الدافئة وروحها الطيبة. جيرانها وزملاؤها لم يتوقفوا عن الثناء على كرمها وإنسانيتها. اعتادت شراء الطعام للكلاب والقطط الضالة، حتى أن الحيوانات التي اعتادت على كرمها كانت تبحث عنها في الحي بعد الحريق، وكأنها تدرك أن من كان يطعمها قد رحل. زملاؤها حضروا إلى مشرحة زينهم لتوديعها، وقد غطت ملامحهم الحزن والصدمة. كانت نوهير أمًا وابنة في الوقت نفسه، تعتني بوالدتها المسنة المريضة بالسرطان التي كانت تخضع لجلسات علاجية في معهد الأورام. ورغم ظروفها الصعبة، لم تفارقها الابتسامة، كما يقول جيرانها. لكن في تلك الليلة، وقفت نوهير مع والدتها في البلكونة تصرخان طلبًا للمساعدة، إلا أن النيران كانت أسرع، لتلتهم الأم وابنتها معًا في مشهد أبكى كل من رآه. «أحمد» لا يستطيع تصديق ما حدث بدوي عباس، أحد المنقذين، وصف اللحظات الأولى للحريق قائلًا: «الأسانسير كان عطلان بسبب ماس كهربائي، والنار بدأت تنتشر بسرعة رهيبة. حاولنا نوصل ليهم، لكن ما قدرناش. الناس اللي كانوا فوق في الدور الثالث عشر نزلوا على عمارة تانية لأنهم خافوا النار توصلهم.». شهود عيان آخرون تحدثوا عن تفاصيل موجعة. سيدة عجوز كانت تقف على الناصية رأت نوهير ووالدتها وهما تحاولان الهروب من النيران، تقول: «كان شعرهم ماسك فيه النار، وكانوا بيصرخوا، محدش قدر يوصلهم، النار كانت مغطية كل الشقة». ورغم حضور سيارات الإطفاء بسرعة، إلا أن السيطرة على الحريق استغرقت أكثر من ساعتين، بينما وقف الأهالي عاجزين عن فعل شيء سوى الدعاء للضحايا. وسط هذه الكارثة، نجا أحمد، الابن الوحيد، لكنه خرج بحمل أثقل من سنوات عمره. فقد كل شيء في لحظة: أباه الذي كان يراه قدوته، أمه التي كانت مصدر حنان ودفء، وجدته التي كانت تعني له الكثير. جلس أحمد أمام مشرحة زينهم، محاطًا بأفراد الأسرة والجيران الذين حاولوا مواساته، لكنه ظل صامتًا، لا يستطيع تصديق ما حدث. «كانت بتفكر في الكل» زملاء أحمد في المدرسة حضروا ليدعموه، لكن كلماتهم لم تجد طريقًا إلى قلبه المثقل بالحزن. أحدهم قال: «أحمد كان دايمًا بيتكلم عن أمه، كان بيحبها جدًا. إحنا مش عارفين نساعده إزاي». في مشرحة زينهم، حيث ترقد جثامين الضحايا، تجمعت الأسرة في حالة من الانهيار. لم يكن أحد منهم مستعدًا لتصديق أن 3 أفراد من عائلتهم قد رحلوا بهذه الطريقة البشعة. شقيقة نوهير لم تتوقف عن البكاء وهي تقول: «نوهير كانت أحن واحدة في الدنيا. كانت بتفكر في الكل، حتى الكلاب والقطط. محدش كان زيها». بينما جلس أفراد آخرون من الأسرة في صمت مطبق، غير قادرين على استيعاب الفاجعة. تساقط الأعمدة والخرسانات طه، نائب مدير بنك الإسكندرية، كان شخصًا ناجحًا في عمله ومحبوبًا بين زملائه. حلم بتأمين مستقبل مشرق لابنه الوحيد، لكن هذا الحلم انطفأ مع نيران الحريق. أما نوهير، التي كرست حياتها لتربية ابنها ورعاية والدتها، فقد كانت تخطط لاصطحاب ابنها في رحلة قصيرة بعد انتهاء امتحاناته. حتى أحمد، الشاب الصغير، كانت لديه أحلام بسيطة: النجاح في دراسته وتحقيق أماني والديه. لكن الآن، بعد أن فقد أسرته بالكامل، تبدو هذه الأحلام وكأنها أصبحت جزءًا من الماضي. مع حلول الليل، تم نقل جثامين الضحايا إلى مقابر العائلة، حيث تجمع الأهل والأصدقاء والجيران لتوديعهم. كانت لحظة الوداع مليئة بالدموع والدعاء، بينما وقف أحمد صامتًا، يراقب المشهد دون أن ينبس ببنت شفة. هذه المأساة لن تُمحى بسهولة من ذاكرة سكان المنيل، لكنها ستظل شاهدًا على وجع الفقد وحقيقة أن النار لا تحرق فقط الجدران، بل تدمر الأرواح أيضًا، وفق وصف الأهالى الذين أشاروا إلى تآكل النار لجدران شقة الأسرة المنكوبة درجة تساقط الأعمدة والخرسانات. قرارات النيابة العامة فور انتهاء عمليات الإطفاء، انتقلت النيابة العامة لمعاينة مكان الحادث. أمرت بتوقيع الكشف الظاهرى على الجثامين لتحديد أسباب الوفاة بدقة، وطلبت تقريرًا من الأدلة الجنائية حول حالة الأسانسير والنظام الكهربائي في العقار. التحقيقات الأولية أشارت إلى أن الماس الكهربائي في أجهزة منزلية كان الشرارة الأولى للحريق، الذي امتد بسرعة مذهلة نتيجة المواد القابلة للاشتعال داخل شقة الضحايا. كما استدعت النيابة عددًا من الشهود لسماع إفاداتهم، وقررت سرعة إعداد تقرير فني مفصل لتحديد المسؤوليات.