بسنت جمال تكتب: حدود تأثير الانتخابات الأمريكية على الاقتصاد العالمي

تتوجه أنظار العالم إلى الانتخابات الأمريكية المقرر انعقادها فى نوفمبر المقبل، ولا يرجع ذلك إلى كون الاقتصاد الأمريكى هو الأكبر فى العالم، بل إلى عدم اليقين الذى يحيط بالمشهد الاقتصادى العالمى، فى ظل اضطراب حركة التجارة العالمية، واستمرار اتّباع سياسات التشديد النقدى المتمثلة فى رفع سعر الفائدة، وتزايد التوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية مع استمرار الحرب فى أوكرانيا وحرب غزة. ويُنظر للملف الاقتصادى باعتباره الملف الحاسم للانتخابات الأمريكية القادمة، حيث لا يزال الاقتصاد الأمريكى يُعانى من ارتفاع معدلات التضخم، وتباطؤ معدل النمو الاقتصادى، وعودة معدلات البطالة للارتفاع من جديد.
تباين البرامج الاقتصادية
تكشف الأجندة الاقتصادية للمرشحَيْن الرئاسيَّيْن كامالا هاريس ودونالد ترامب عن تباين ملحوظ فى البرامج والأهداف، حيث تعهد ترامب بأنه حال إعادة ترشحه سيفرض رسومًا جمركية 10٪ على جميع السلع المستوردة لتشجيع الصناعة المحلية وحمايتها من المنافسين الأجانب، مع فرض تعريفة بنسبة 60٪ على جميع الواردات الأمريكية من الصين للتخلص التدريجى من الواردات الصينية من السلع الأساسية خلال 4 سنوات، وهو الأمر الذى يبدو مستحيلًا على المدى القصير، حيث استوردت الولايات المتحدة سِلعًا صينية تبلغ قيمتها حوالى 565 مليار دولار خلال عام 2022.
كما يسعى ترامب إلى خفض الضرائب على الشركات، الأمر الذى قد يسهم فى تحقيق أرباح أعلى للشركات الأمريكية ورفع أسعار أسهمها، إلى جانب زيادة الإعانات الصناعية وخفض الإعانات الخضراء، والتركيز على التنقيب عن النفط والغاز الطبيعى عبر إزالة القيود المفروضة على التنقيب عن النفط والغاز فى ألاسكا، وتشجيع إنشاء محطات جديدة لتصدير الغاز الطبيعى المسال، حيث ستعطى إدارة ترامب المستقبلية الأولوية لاستقلال الطاقة والاعتبارات الاقتصادية على الأهداف البيئية.
يُدلل على ذلك المعارضة الشديدة للتحول إلى السيارات الكهربائية بسبب مساهمتها فى التأثير سلبًا على صناعة السيارات الأمريكية، وذلك ضمن مساعيه لنقل سلاسل توريد السيارات بأكملها إلى الولايات المتحدة، وهو الأمر الذى سيواجه عقبات اقتصادية نظرًا لاعتماد الاقتصاد الأمريكى على قطع غيار السيارات المستوردة وعدم قدرته على تصنيعها محليًا.
فيما انتقدت هاريس نهج التعريفات الجمركية التى سيتبعها ترامب، حيث تتبنى نهجًا تعاونيًا أكثر مع الشركاء التجاريين، مع تفضيل الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف التى تراعى قضايا التغيرات المناخية وحقوق العمال، كما تسعى هاريس لتعزيز الاستثمارات فى البنية التحتية والطاقة النظيفة والصناعات ذات الصلة بهدف الحد من تأثير أزمة المناخ وخفض الانبعاثات الحرارية.
إلى جانب ذلك، فإنها تستهدف خفض تكاليف الرعاية الصحية، ووضع حد أقصى لارتفاع أسعار الإيجار عند مستوى يبلغ نحو 5٪ لتأمين وحدات سكنية بأسعار معقولة، وذلك لمواجهة الأزمة الحادة التى تُعانى منها الولايات المتحدة فى سوق الإسكان، والتى تتمثل أبرز معالمها فى ارتفاع أسعار المنازل مع تراجع مبيعات المنازل الجديدة، إلى جانب ارتفاع عدد الأسر التى تُنفق أكثر من نصف دخلها على السكن والمرافق لمستوى قياسى خلال عام 2022، مما يجعلها عُرضةً لمخاطر «فقدان السكن» فى حالة حدوث أى مشكلات مالية غير متوقّعة.
كما وضعت هاريس خطةً بقيمة 300 مليار دولار لرفع رواتب المعلمين من خلال زيادة الضرائب العقارية على الأثرياء مقابل عدم زيادة الضرائب على المواطنين من ذوى الدخول البالغة أقل من 400 ألف دولار سنويًا. وكذلك تُولِى اهتمامًا خاصًا بالشركات الصغيرة ورواد الأعمال، من خلال توفير قروض ميسرة، وتسهيلات ضريبية لتحفيز أعمالها. وهكذا يرتكز برنامج هاريس الاقتصادى على معالجة الفوارق الاقتصادية عبر تعزيز فرص التوظيف للأقليات، والمجتمعات المهمشة، علاوةً على تحسين التعليم وتوفير الرعاية الصحية بتكلفة معقولة، فضلًا عن تحسين فرص الحصول على السكن.
ارتدادات عالمية
تكمن أهمية الانتخابات الأمريكية بالنسبة للاقتصاد العالمى فى حجم التشابكات الدولية للاقتصاد الأمريكى، وأهميته بالنسبة للتجارة العالمية، وتأثير قرار الاحتياطى الفيدرالى بالنسبة لسعر الفائدة على حجم الديون العالمية، وأسعار الفائدة والصرف فى غالبية دول العالم، إلا أن حدود التأثير تتوقف على من سيفوز بالانتخابات القادمة، وإلى أى مدى سيتمكن من تطبيق برنامجه الاقتصادى.
- معدل التضخم: من المرجح أن يؤدى إعادة فرض التعريفات الجمركية على السلع المستوردة من الخارج إلى رفع معدلات التضخم الأمريكية والعالمية بسبب زيادة أسعار الواردات الأمريكية، الأمر الذى يُعطى المنتجين المحليين الفرصة لتمرير الزيادة السعرية للمستهلكين. كما أن خفض الضرائب بالمعدل الذى يسعى إليه ترامب من شأنه أيضًا أن يزيد الضغوط التضخمية، مما قد يؤدى إلى استمرار السياسة النقدية التشددية فى الولايات المتحدة القائمة على رفع الفائدة لمواجهة التضخم، ويزيد من التحديات المفروضة أمام الدول النامية التى تعانى من ارتفاع قيمة الدولار وتداعياته واسعة النطاق على فاتورة الاستيراد ومعدل الاستثمار الأجنبى فى أدوات الدين المحلى، ورفع خدمة الديون. وفى هذا الشأن، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ ثلثى أكبر 150 عملة فى العالم انخفضت قيمتها مقابل الدولار فى عام 2024، مما أثر فى معدلات التضخم فى تلك الدول، وفى تكلفة خدمة الديون السيادية المقومة بالدولار.
- التجارة العالمية: شهدت التجارة العالمية خلال عام 2023 أول انكماش منذ انتشار جائحة كورونا عام 2020 نتيجة لتتابع الأزمات الاقتصادية التى ألقت بظلالها على سلاسل الإمداد والتوريد وقطاع الشحن العالمى. ووفقًا لأحدث تقارير منظمة التجارة العالمية، فإن أحجام التجارة قد تراجعت بنسبة 1.2٪ خلال عام 2023 مقارنة بتوقعات المنظمة الصادرة فى أكتوبر بحدوث نمو قدره 0.8٪.
ومن المرجّح أن يُسهم فوز ترامب فى الانتخابات المقبلة فى خلق حالة من عدم اليقين فى التجارة العالمية، وزيادة الاضطرابات التى تعانى منها خاصة فى ظل الهجمات التى يشهدها البحر الأحمر حاليًا، واشتداد الجفاف فى قناة بنما، وتراجع حجم التجارة المارة بقناة السويس. أما فى حالة فوز هاريس، فإن ذلك قد يسهم فى تعزيز التجارة العالمية، حيث تسعى إلى عقد شراكات تجارية ثنائية أو متعددة الأطراف، مما سيعيد تشكيل خريطة التحالفات التجارية العالمية.
- التدخل فى قرارات الاحتياطى الفيدرالى: فى حالة فوز ترامب، فإن هناك مخاوف بشأن تزايد احتمالية تدخله فى قرارات الاحتياطى الفيدرالى بما يتوافق مع مستهدفاته الاقتصادية، وهو الأمر الذى قد يُهدد استقلالية قرار البنك المركزى الأمريكى، حيث صرح ترامب بأنه سيسمح لرئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى «جيروم باول» بإنهاء ولايته فى حالة اتخاذه قرارات صحيحة، مشيرًا إلى أهمية إحجام الاحتياطى الفيدرالى عن خفض أسعار الفائدة قبل انتخابات نوفمبر المقبل.
- التأثير فى قطاع التكنولوجيا: يُعد القطاع التكنولوجى من بين أبرز القطاعات التى قد تتأثر بالانتخابات الأمريكية القادمة، حيث إن زيادة الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، ووضع ضوابط تصديرية على المنتجات التكنولوجية الأمريكية من شأنه أن يضر بشركات التكنولوجيا التى تعتمد على المكونات الدقيقة المستوردة من الخارج، وكذلك من شأنه أن يؤثر فى الشركات العاملة بقطاع الرقائق، مما يُنذر بحدوث أزمة جديدة فى سلاسل توريد الرقائق التى قد تؤثر فى جميع الصناعات المعتمدة على الرقائق وأشباه الموصلات.
وفى حالة فوز ترامب، فإنه من المتوقع أن يتم دعم «البيتكوين»، حيث تعهد خلال أكبر مؤتمر للبيتكوين فى الولايات المتحدة بأن يجعل الولايات المتحدة «عاصمة العملات المشفرة على الكوكب» وقوة البيتكوين العظمى فى العالم، كما أعلن عن خطة لإنشاء احتياطى استراتيجى للبيتكوين لصالح الحكومة الأمريكية.
- التغيرات المناخية: تختلف سياسات كلٍ من هاريس وترامب تجاه قضية التغيرات المناخية ومفهوم أمن الطاقة، وهو ما سيترتب عليه تداعيات عالمية مختلفة فى حالة فوز أى منهما، حيث يسعى الأخير إلى زيادة إنتاج الوقود الأحفورى، وزيادة بصمة الولايات المتحدة فى قطاع الطاقة التقليدية. وعلى النقيض، يُعطى برنامج هاريس الاقتصادى الأولوية لقضية التغيرات المناخية. ومن شأن إعادة انتخاب ترامب أن يؤدى إلى إضافة 4 مليارات طن من الانبعاثات الحرارية بحلول عام 2030، وفقًا لتحليل صادر عن صحيفة «Carbon Brief»، وهو الأمر الذى قد يؤدى إلى عدم وفاء الولايات المتحدة بتعهداتها المناخية، كما أنه قد يسمح للدول الأخرى، خاصة الآسيوية، بقيادة جهود الاستدامة وتحقيق الريادة فى تقنيات الطاقة النظيفة، كالصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية.
ختامًا، تُعد الانتخابات الأمريكية المقبلة أمرًا حاسمًا للاقتصاد العالمى نظرًا لتأثيراتها المختلفة على العلاقات الاقتصادية والتجارية العالمية، وأسعار الفائدة فى مختلف الدول حول العالم، ومعدلات التضخم، وذلك فى ظل بيئة تتسم بالضبابية وعدم اليقين.
* باحثة بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية
ينشر بالتعاون مع المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية