أشارت بعض التقارير الغربية إلى قيام الولاياتالمتحدةالأمريكية مؤخراً بتسليم بعض المساعدات العسكرية لغاناوبنين وكوت ديفوار، وهى المساعدات التى كانت مُخصّصة فعلياً للنيجر، قبل أن تتدهور علاقات واشنطن بنيامى وتضطر الولاياتالمتحدة لاحقاً إلى سحب قواتها من النيجر؛ وهو ما أثار العديد من التساؤلات بشأن اتجاه واشنطن لتعزيز حضورها العسكرى فى غرب إفريقيا، ومدى ارتباط هذه التحركات باستراتيجيتها الجديدة فى إفريقيا. تحرّكات عسكرية شهدت الفترة الأخيرة تحركات عسكرية لافتة للولايات المتحدة فى منطقة غرب إفريقيا، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالى: 1- مُساعدات عسكرية: وافقت غانا وكوت ديفوار وبنين على قبول المساعدات العسكرية التى عرضتها الولاياتالمتحدة على هذه الدول، وتتضمن بالأساس عدداً من المركبات المدرعة الأمريكية، وكانت واشنطن قد خصصت هذه المركبات فى الأصل للنيجر، لكنها تراجعت عن ذلك فى أعقاب التوترات المتزايدة مع السلطات فى نيامى فى أعقاب الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس النيجرى محمد بازوم، الذى كان يُعد أحد أبرز حلفاء الغرب، ولاسيما الولاياتالمتحدة، فى منطقة الساحل الإفريقى. فى المقابل، يتبنى المجلس العسكرى الحاكم حالياً فى نيامى مُقاربة مُناهضة للغرب، تمخض عنها انسحاب القوات الأمريكية، وقبلها الفرنسية، من البلاد فى أغسطس 2024، وكشف تقرير صادر عن موقع «أفريكا إنتلجنس» الفرنسى أن هناك المزيد من المعدات العسكرية التى تستعد الولاياتالمتحدة لمنحها كمساعدات لعدة دول فى غرب إفريقيا، ولاسيما غاناوبنين وكوت ديفوار. 2- نقل قوات خاصة: كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية عن وصول عناصر من القوات الخاصة الأمريكية إلى منطقة غرب إفريقيا، بالإضافة لنقل بعض الطائرات العسكرية إلى هذه المنطقة، وذلك بالتزامن مع تحركات واشنطن لتجديد أحد المطارات الموجودة فى بنين، بقيمة تبلغ نحو 4 ملايين دولار، لتطوير المطار بحيث يصبح قادراً على استيعاب المروحيات الأمريكية، مع تعزيز التعاون مع كوت ديفوار؛ إذ كشف التقرير عن انتشار مجموعة من القوات الخاصة الأمريكية فى أبيدجان، بل إن التقرير الأمريكى أشار إلى وجود مفاوضات راهنة تقوم بها الولاياتالمتحدة مع تشاد من أجل عودة القوات الخاصة الأمريكية إلى إحدى القواعد الموجودة فى أنجامينا. 3- زيارات مُكثّفة لقائد «الأفريكوم»: شهدت الأشهر الأخيرة زيارات مُكثّفة قام بها قائد القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم»، مايكل لانجلى، إلى دول غرب إفريقيا، ولاسيما غانا وكوت ديفوار وبنين، فى إطار عملية المراجعة التى تقوم بها الولاياتالمتحدة حالياً لاستراتيجية قوات «الأفريكوم» فيما يتعلق بمنطقة غرب إفريقيا، كما عكست هذه الزيارات مدى محورية هذه المنطقة فى استراتيجية واشنطن الجديدة فى القارة الإفريقية بشكل عام. ولعل هذا ما يُفسّر أيضاً تركيز وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، فى جولته الإفريقية، فى يناير الماضى، على دول غرب إفريقيا. إعادة تموضع تعكس التحركات الأمريكية الأخيرة فى غرب إفريقيا جملة من الدلالات المهمة التى تُشير إلى إعادة تموضع للقوات الأمريكية فى المنطقة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالى: 1- إعادة هيكلة القوات الأمريكية: كلّفت وزارة الدفاع الأمريكية فريقاً مكوناً من 10 أفراد من القوات الخاصة الأمريكية بدراسة كيفية إعادة توزيع القوات الأمريكية التى كانت موجودة فى النيجر، البالغ عددها نحو 1100 جندى، كانوا متمركزين فى ثلاثة مواقع عسكرية للقوات الخاصة، بالإضافة لقاعدة جوية فى أغاديز، وتسعى واشنطن حالياً لنشر هذه القوات فى بعض دول غرب إفريقيا الساحلية، ولاسيما بنين وكوت ديفوار. ويتسق هذا الطرح مع تصريحات قائد القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم»، الذى ألمح إلى أن الولاياتالمتحدة تعمل حالياً مع حلفائها الإقليميين فى غرب القارة الإفريقية، ولاسيما غانا وكوت ديفوار وبنين، على تنفيذ خطتها الخاصة بإعادة تموضع قواتها التى كانت موجودة فى النيجر، خاصة أن قاعدة الطائرات من دون طيار فى مدينة أغاديز كانت تشكل محور مهمة «أفريكوم» فى غرب إفريقيا، ويبدو أن واشنطن تبحث حالياً عن بديل لهذه القاعدة. 2- استعادة قدرات مُكافحة الإرهاب والتمرد: تسعى الولاياتالمتحدة إلى مواجهة التمدد المُضطّرد لانتشار تنظيمى القاعدة وداعش فى منطقة الساحل وغرب إفريقيا؛ إذ شهدت الأشهر الأخيرة نشاطاً محلوظاً فى العمليات الإرهابية التى يقوم بها التنظيمان. فى المقابل؛ منذ انسحاب القوات الأمريكية من قاعدتها الاستراتيجية التى كانت موجودة فى النيجر، تراجعت القدرات الأمريكية بشكل كبير على التأثير فى جهود مكافحة الإرهاب وعمليات التمرد فى منطقة الساحل والصحراء. ومن ثم، فمن خلال عملية إعادة التموضع المرتقبة للقوات الأمريكية فى غرب القارة الإفريقية، ربما يساعد ذلك على استعادة واشنطن لقدراتها وتأثيرها فى ملف مكافحة الإرهاب والتمرد بمنطقة الساحل. 3- انفتاح واشنطن على دول الساحل والصحراء: على الرغم من عملية إعادة التموضع التى تطبقها الولاياتالمتحدة حالياً؛ فإنها بدأت تتبنى مُقاربة أشمل فى إطار استراتيجيتها الجديدة فى القارة الإفريقية؛ إذ تسعى من خلالها للانفتاح على كافة الدول الإفريقية، بما فى ذلك دول الساحل والصحراء التى شهدت انقلابات عسكرية أطاحت بحلفاء واشنطن ووصول مجالس عسكرية مُناهضة للغرب، ولعل هذا ما يتجسد فى تصريحات قائد قوات «الأفريكوم»، الذى أشار إلى أن بلاده تقوم حالياً بتقييم التعاون العسكرى مع دول منطقة الساحل، بما فى ذلك تحالف الساحل الجديد الذى يضم مالى والنيجر وبوركينا فاسو، وبناءً عليه ستحدد واشنطن طبيعة العلاقات مع شركائها الجدد فى إفريقيا. وعلى المنوال ذاته؛ تسعى استراتيجية الولاياتالمتحدة الجديدة فى القارة الإفريقية إلى تعزيز علاقاتها بدول القارة، ولعل هذا ما يفسر إعلان واشنطن مؤخراً عن دعمها لفكرة حصول القارة الإفريقية على مقعدين دائمين فى مجلس الأمن. كما كشفت بعض التقارير عن اتجاه الرئيس الأمريكى، جو بايدن، للقيام بزيارة إلى أنجولا خلال الأيام المُقبلة؛ وهو ما سيجعلها، حال حدوثها، أول زيارة لرئيس أمريكى إلى إفريقيا جنوب الصحراء منذ زيارة الرئيس الأمريكى السابق، باراك أوباما، فى عام 2015. 4- مُواجهة التمدد الروسى والصينى: ترتبط التحركات الأمريكية الراهنة فى غرب إفريقيا بمساعى واشنطن لمواجهة تمدد النفوذ الروسى والصينى فى هذه المنطقة. وفى هذا السياق، وجّه قائد القيادة الأمريكية فى إفريقيا، تُهماً لروسياوالصين بقيادة حملة تضليل فى منطقة الساحل لتقويض النفوذ الأمريكى فى منطقة الساحل وغرب إفريقيا؛ مُشيراً إلى أن بلاده تسعى حالياً لمواجهة هذه الحملة. ويبدو أن ثمّة قلقاً أمريكياً مُتزايداً من تنامى النفوذ الصينى فى غرب إفريقيا، فبعد فترة من تراجع دور بكين فى القارة خلال السنوات الأخيرة، عادت المشاركة الصينية فى إفريقيا للتزايد مرة أخرى، وهو ما انعكس فى المنتدى التاسع للتعاون الصينى الإفريقى (FOCAC)، مطلع سبتمبر 2024، والذى ركّز بشكل كبير على المنافسة الصينية مع الغرب، ولاسيما الولاياتالمتحدة، فى القارة الإفريقية؛ إذ ترسخ بكين صورتها كشريك أكثر موثوقية للدول الإفريقية، بما فى ذلك الغرب الإفريقى. ارتدادات مُحتملة فى إطار التحركات الأمريكية الراهنة فى غرب إفريقيا، هناك جملة من الارتدادات المُحتملة التى ربما تتمخض عن هذه التحركات، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالى: 1- قواعد عسكرية أمريكية جديدة: مع الخسائر المتتالية للمصالح الأمريكية فى منطقة الساحل، ولاسيما بعد انسحاب قواتها من النيجر، وقرار المجلس العسكرى الحاكم فى تشاد تعليق الأنشطة العسكرية الأمريكية فى قاعدة أدجى كوسى؛ تسعى واشنطن لتكثيف حضورها فى غرب إفريقيا، وهو ما ربطته بعض التقارير الغربية بوجود تطلعات أمريكية لإقامة قواعد عسكرية جديدة فى دول الغرب الإفريقى. وفى هذا الإطار، جاءت الزيارات المُتكررة التى قام بها قائد قوات «الأفريكوم»، مايكل لانجلى، خلال الأسابيع الأخيرة إلى غرب إفريقيا لبحث هذا الأمر مع بعض الدول فى غرب إفريقيا. ويتماشى هذا الطرح مع بعض التقارير، غير المؤكدة، التى كانت قد كشفت فى يوليو 2024 عن وجود اتجاه لإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية فى منطقة أودينى بشمال غرب كوت ديفوار. 2- تكرار سيناريو دول الساحل: رجّحت بعض التقديرات أن يشكل تنامى الحضور العسكرى الأمريكى فى غرب إفريقيا ذريعة للمجموعات الإرهابية الموجودة فى منطقة الساحل للتمدد وتوسيع نشاطها فى غرب القارة الإفريقية، من خلال إثارة المشاعر المناهضة للغرب فى هذه المنطقة، واستغلال هذا الوجود العسكرى فى التعبئة الداخلية وتجنيد مزيد من العناصر الإرهابية؛ الأمر الذى قد يفاقم حالة الاستقطاب الداخلى فى دول الغرب الإفريقى؛ ومن ثم يزيد من احتمالية تكرار سيناريو منطقة الساحل، سواء بحدوث انقلابات عسكرية، وإن كان هذا السيناريو أقل ترجيحاً، أم وصول حكومات فى هذه الدول تفضّل الانفتاح على الصينوروسيا على حساب علاقاتها التقليدية بالغرب، وربما تشكل حالة نيجيريا نموذجاً واضحاً لهذا الأمر. 3- تصاعد التنافس الدولى: أصبح التعاون العسكرى أحد أبرز أدوات التنافس الأمريكى الصينى، خاصةً فى القارة الإفريقية، ففى الوقت الذى تسعى فيه الولاياتالمتحدة لإعادة تموضع قواتها فى منطقة غرب إفريقيا وتعزيز تعاونها العسكرى مع دول القارة الإفريقية، تعمل الصين أيضاً على زيادة تعاونها العسكرى فى القارة، ولاسيما مع دول غرب إفريقيا، فقد أعلنت بكين عن خطتها لإنفاق نحو 140 مليون دولار لتدريب 6 آلاف عسكرى من القارة الإفريقية، وقد باتت الصين تشكل ثانى أكبر مورد للأسلحة فى إفريقيا، بعد روسيا. كذلك، تعمل الصين حالياً على تعزيز علاقتها طويلة الأجل مع القيادات الإفريقية الصاعدة التى ستصبح لاحقاً على رأس المؤسسات العسكرية والسياسية فى إفريقيا، ويتسق هذا الطرح مع «مبادرة الأمن العالمى» (GSI) التى أطلقتها بكين فى عام 2022؛ وتستهدف طرح نظام أمنى بديل للنظام الذى تقوده الولاياتالمتحدة؛ وهو ما سيطرح العديد من الخيارات أمام الدول الإفريقية. غير أن هذه التطلعات الطموحة للصين تثير قلقاً أمريكياً متزايداً، ولاسيما فى ظل الحديث عن مساعى بكين للحصول على قاعدة عسكرية دائمة لها فى غرب إفريقيا؛ لتكون الثانية للصين فى القارة، بعد قاعدتها الوحيدة حالياً فى جيبوتى، غير أن واشنطن تنظر إلى الوجود العسكرى الصينى المحتمل فى غرب إفريقيا، والذى سيمنح بكين حضوراً عسكرياً على الساحل الشرقى للولايات المتحدة، باعتباره تهديداً لمصالحها. ولعل هذا ما يفسر قيام الولاياتالمتحدة مؤخراً بتخصيص نحو 5 ملايين دولار كحزمة لتدريب القوات الخاصة فى الجابون؛ بهدف منع الصين من الحصول على قاعدة عسكرية لها هناك؛ وهو ما يعكس تصاعد حدة التنافس الأمريكى الصينى على النفوذ العسكرى فى غرب القارة الإفريقية. وفى الختام، تسعى الولاياتالمتحدة إلى تبنى مُقاربة جديدة فى القارة الإفريقية، تتغلب من خلالها على خسائرها التى أفرزتها استراتيجيتها السابقة، والتى قلّصت نفوذها فى منطقة الساحل والصحراء. وفى هذا السياق؛ تستهدف واشنطن إعادة تموضع قواتها فى غرب إفريقيا، ومراجعة استراتيجية القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم» فيما يتعلق بمنطقة غرب إفريقيا، بما يوسع وجودها العسكرى فى دول غرب إفريقيا الساحلة، دون أن يفضى ذلك إلى قطيعة كاملة مع تحالف دول الساحل الجديد، فى محاولة للحفاظ على قوة تأثير واشنطن ومصالحها فى منطقة الساحل، حتى وإن كان ذلك بتكلفة أعلى. وفى الوقت ذاته، تولى الولاياتالمتحدة اهتماماً كبيراً بمواجهة النفوذ الصينى المتنامى فى هذه المنطقة؛ وهو الأمر الذى يتوقع أن تكون له انعكاسات مهمة على المشهد الجيوسياسى هناك، وربما يؤدى على المدى الطويل إلى تكريس حالة الاستقطاب. ينشر بالتعاون مع المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة