كان جمال حمدان يغطّ في نوم عميق، داخل منزله بدرب الحمصاني في حارة اليهود بالقاهرة، قبل أن يستيقظ في الحادية عشرة مساءً، مفزوعًا على وقع استغاثة من جيرانه وانبعاث رائحة أدخنة، وأصوات سيدات يصرخن يطلبن إنقاذ أطفالهن من نيران حاصرتهم داخل مساكنهم. انتفض الشاب الثلاثيني، هاله مشهد ألسنة النيران: «حاجة تخلع القلب»، يقول: «حاولت مع غيرى السيطرة على الحرائق التي امتدت من مول تجارى لبيع لعب الأطفال والأجهزة الإلكترونية إلى 4 عقارات تضم محال مماثلة، وتقطنها 40 أسرة على الأقل، لكنهم أبدًا لم يستطيعوا.. النار سرحت مع الهواء، وكل شىء تحول إلى رماد في غمضة عين، وحين عجزوا عن فعل شىء انتظروا قدوم قوات الحماية المدنية، بس كانت خساير التجار بالملايين، وفقدنا مُسنة وابن صاحب محل و2 عاملين معه واحد فيهم مات»، وفق حديثه، ل«المصرى اليوم». «شقتي اتكنست واتمسحت خالص من النار» بالكاد استطاعت سيارات الإطفاء الدخول إلى الحارة، التي تتسع لمرور 3 أشخاص متجاورين، بحسب «حمدان»، الذي يقطن الحارة ويعمل بأحد المحال، وزادت النيران، وملأت الأرجاء: «لقينا الحريقة طالعة من الدور التانى بمحل لعب، نزلنا نجيب طفايات وطلعنا اتخنقنا من كثافة الدخان، فنزلنا تانى لقينا الدخان بيطلع من الدور الأول، معرفناش نكسر الأبواب لأن عليها أقفال حديدية، زاد الأمر سوءًا حين طالت شرارات اللهب العقارات المجاورة، مرة واحدة سمعنا أصوات فرقعة كهرباء وغاز، وكده خلاص الدنيا قولنا عليها السلام»، ثم تساقطت الأسقف الأسمنتية للشرفات جراء تآكلها مع تدمير أجهزة التكييف لتصبح المنطقة كلها «منورة» باللونين الأحمر والأسود، حيث غطى منظر النيران أركان السوق التجارية بأكملها. سرعة انتشار النيران صعّبت من مهام قوات الحماية المدنية: «فى الأول حضرت ب6 سيارات إطفاء وبعدين استعانت ب5 أخرى». تذكر الحاجة «أم جيهان»، إحدى قاطنات العقارات المحترقة، والتى نجت من موت محقق، وهى ترتعش غير مصدقة أنها من بين الأحياء: «لقينا دخانة النار هبت علينا مرة واحدة، وإحنا قاعدين، وفجأة لحمت الحريقة في كل البيوت اللى جنب محلات اللعب والأجهزة الإلكترونية»، فيما تذكر: «لقينا الشباب والرجالة بينزلونا من شباك خلفى من عند جارتى بالدور التانى على سطح منزل مجاور بالسلالم الخشبية، لحد دلوقتى معرفش نزلت إزاى»، لكن رغم نجاتها تندب حظها بقولها: «شقتى اتكنست واتمسحت خالص من النار، كل اللى فيها اتعدم وهلك، وقعدنا كده يا مولاى كما خلقتنى، وأنا ست جوزى ميت، وكنت قاعدة في شقتى مع بنتى وابن أختها التانية»، على حد قولها. «دلوقتي بقينا بلا مأوى» واستمرت محاولات الإطفاء مدة 3 ساعات، بينما كان أصحاب المحال التجارية يحصون خسائرهم، وهى بملايين الجنيهات، وفق تقديرهم، ويقولون إن الحريق بدأ من عم «يحيى»، لكنهم لا يجدون وقتًا للوم أو عتاب أو حتى توجيه أصابع اتهام إليه أو إلى غيره ممن يُشتبه في أن الماس الكهربائى نشب من محلهم وامتد إلى المحال المجاورة، ويقولون إن صاحب المحل الأول فقد ابنه، ويُدعى «أحمد»، جراء الحادث، ويسردون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته: «ده قاعد مع 2 عمال، منهم واحد اسمه (كهربا)، يدوب هيقفلوا وهيمشوا حصلت الحرايق وحاصرتهم، منهم اللى اتخنق ومات في ساعتها، ومنهم واحد تفحمت جثته تمامًا لدرجة التصاقها في الأرضية، ومعها طلع الجلد». وسط الشارع المؤدى إلى منزلها، استوقف الناس العجوز «أم عادل»، كانت عائدة لتوها برفقة ابنتها من كشف طبى، قبل أن تلتقط أنفاسها، ألقى الأهالى بالصدمة في وجهها: «مش أنتِ شقتك اللى جنب محل أبويحيى، اتحرقت كلها»، وتقول حزينة إنها هرولت إلى مسكنها وجدته على البلاط، باكية: «مبقتش أنا وبنتى نملك غير العباية اللى لابسينها، شقا عمرنا كله راح، دهب وفلوس لزوم الزمن ضاعت، والشقة بقت كوم رماد، ولا نمتلك مصدر رزق ثابت، ودلوقتى بقينا بلا مأوى». «النيران حاصرتنا على سلم البيت» أحزان «أم عادل» تضاعفت لما عرفت بتفاصيل مصرع جارتها بالعقار ذاته، «أم خالد»، وتتساقط الدموع من عينيها: «معرفتش تنزل، وجوزها اتخنق هو وابنها، واتنقلوا للمستشفى»، وتطالب المُسنة بشاب لمعاونتها للتوجه إلى مستشفى «سيد جلال»، حيث ترقد جثامين الضحايا قبل التصريح بدفنهم من قِبَل النيابة العامة: «دول عشرة عمر، لازم نبص عليهم ونودعهم.. كنا هنبقى مكانهم، لولا ستر ربنا»، وتهدئها ابنتها: «دبة رجلك على الأرض يا أمى بالدنيا وما فيها، اللى راح يتعوض»، فيما ترد عليها: «منين يا بنتى، منين بس؟!». وأنقذ عصام أحمد خالتيه من الموت، فكانت زيارته بمثابة «طوق نجاة» لهما: «النيران حاصرتنا على سلم البيت، ولقيت فرقعة الكهربا، على طول خدتهم ونطينا على بيت الجيران، راحوا المستشفى يتعالجوا من كسور، بس قدَر أخف من قدَر»، مشيرًا إلى أن ما تكبدتاه من خسائر يتمثل في حالتهما النفسية المدمرة جراء مشاهد الرعب التي انتابتهما غير فقدانهما ممتلكاتهما. «قبل ما بنمشى بنتمم على سكينة الكهربا» «انزل.. انزل من العمارة»، سمعتها هناء حامد، إحدى المتضررات جراء الحريق، والتى تقول: «لقينا مدخل البيت مولع، والنار بتمسك في شقة ورا التانية، وكل حاجتنا راحت، وكان معايا وقتها بنتى وإخواتى الاتنين وولادهم، بصينا لقينا نفسينا محاصرين من كل مكان، ربنا سترها، رمينا العيال على سطوح الجيران، وإحنا نزلنا وراهم»، مرتعدة تضيف: «إحنا ساكنين فوق محل الألعاب اللى ولعت الأول، والفرق بينا وبين الموت كان حوالى دقيقتين. أول ما نطينا من الشباك، النار فرقعت، وابن صاحب المحل واللى معاه ماتوا». قبل ما يزيد على 50 عامًا، والمحال التجارية بالمنطقة الشعبية على حالها، وأحد ملاكها يعترف بعدم وجود وسائل أمان اصطناعى، وألقت أجهزة الأمن اللوم على عدد منهم، وكان من بينهم مالك المحل الذي تسبب في اندلاع الحرائق، فيما شرحت أن المحال جميعها تحوى مواد سريعة الاشتعال، لذا «قبل ما بنمشى بنتمم على سكينة الكهربا كويس لأننا بنخاف من الحرايق». «كله اتدمر» في الشوارع المجاورة لحارة اليهود لا حديث يعلو عن الحريق ورائحة الأدخنة التي تملأ المكان، والتى جعلت عددًا من السكان يغادرون منازلهم حرصًا على سلامة أطفالهم، بينما يقف أصحاب محال بعيدة عن الحرائق يرفعون أيديهم في السماء شاكرين الله، فيما يرون آخرون يبكون على بضاعتهم: «اللى اشتروا بشيكات بملايين الجنيهات». محمود رفعت نظر بعين يملؤها الحزن إلى خسائر محله والمحال المجاورة التي صارت رمادًا، بينما عجز عن لم أي شىء يمكن إنقاذه: «كله ادمر لأنى قريب من موقع الحريق». سيارات الإسعاف نقلت جثامين الضحايا ال4 إلى المستشفى تحت تصرف النيابة العامة، التي استعلمت عن الحالة الصحية للمصابين، كما كلفت إدارة البحث الجنائى بسرعة إجراء تحريات المباحث حول الحريق للوقوف على ملابسات اشتعال النيران وكذا تحديد حجم الخسائر في الحريق، واستمعت لأقوال شهود العيان على الحريق.