◄| الرويعي تحولت إلى «بركة طين».. وفندق الأندلس شاهد على الخراب والدمار ◄| أصحاب المخازن: «اللهم أجيرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها» ◄| سكان المنطقة: بيوتنا اتخربت..والبقية الباقية تركناها للصوص حينما تطأ أقدامك منطقة العتبة، وتحديدا عند بداية منطقة الرويعي بالموسكي، تجد نفسك مرغما علي استنشاق روائح الأدخنة، قبل مسافات بعيدة، من بؤر الحرائق التي شهدتها المنطقة علي مدار الأيام الأخيرة. كلما اقتربت خطوة كلما زادت هذه الرائحة، إلي أن يصيبك سعال شديد، واحمرار في العين، ويكاد يصل الأمر غلى الإصابة ب« أزمة صدرية»، من فعل المواد الكيماوية والزيوت التي التهمتها النيران. يلوح في الأفق من بعيد أطلال فندق الأندلس، الذي أتت عليه النيران، وتحول بفعل ذلك إلى شاهد عيان علي الخراب الذي أصاب المنطقة، ولا يزال عالقا في ذهني، مشهد لبشر لا حصر لهم، علي اختلاف أجناسهم، يقفون موقف المتفرج، في ذهول تام مما يرونه، أفواههم مكممة لا تنطق بكلمة واحدة، حتى وأن سألهم أحد عن أي شيء يخص الحادث، عيونهم جاحظة، وتكاد تخرج من أجسادهم من هول ما يشاهدون، وكأنهم أمام شاشة عرض "سينما"، وليس واقعا مؤلما. دخان كثيف، يخرج من جميع أدوار، ومنافذ الفندق، تدريجيا، وكأنه يعرف طريقه للخروج، دون توجيه من أحد، والأرض تحولت بفعل مياه الإطفاء إلي بركة من الطين، حتى تنغمس قدماك في بحر عميق، إذا ما أردت المشي بالرويعي، ناهيك عن القمامة هنا وهناك، بقايا خشب مبعثر، قطع من الحديد، ذات أحجام مختلفة، مسامير، شواكيش، مفاتيح، انصهرت مع النيران إلي أن أصبحت رمادا، عربات المطافئ، منتشرة بطول، وعرض الشارع، لإخماد النيران التي مازالت مشتعلة لليوم الثالث علي التوالي. لقطة أخري للمشهد المأساوي، الذي ضرب المنطقة، هذا المشهد يتلخص في عربات كسح المياه من الأرض، وعربات أخري تحاول لملمة المخلفات، قوات الأمنلم تغيب عن المشهد، متراصة في صفوف بجوار بعضها البعض، مرتدية زيها الرسمي، حاملة سلاحها الخاص بها، يكسو وجوه أفرادها التعب، والإرهاق، دورهم يتمثل في من الدخول لمكان الفندق، ورغم ذلك لم يمنع المواطنين من الوقوف أو السير بالمكان، في محاولة منهم لمواساة أقرانهم فيما حدث لهم. "بوابة أخبار اليوم" انتقلت إلي الرويعي، للوقوف على حقيقة الدمار الذي أصاب المكان، ألسنة ,وجدنا أن ألسنة اللهب لم تقتصر علي الفندق بل امتدت لتشمل أكثر من 6 عقارات من الجوانب الأربعة، أشلاؤها ملابس، وأدوات منزلية متطايرة، مع الدخان علي جدران الحوائط، هذه العقارات متنوعة ما بين بيوت سكنية تم إنشاؤها منذ قديم الزمن، ومخازن للباعة الجائلين، تضم بضائع شتي، ومحال أسفل هذه العقارات، علي اختلاف أنواعها منها للتجارة، والتوريدات، مسامير، مفاتيح، مستلزمات الأثاث، وثانية للأحذية حريمي، ورجالي، أطفالي، حقائب للسيدات، وأخري للأقمشة، وغيرها الكثير من المحال التجارية، مغلقة جميعها دون استثناء، أصحابها جالسون أمامها يبكون على أطلالها، منهم من يقف أمام محله حاميا له من اللصوص، لأن بابه لم يعد له اثر، وخلفه بقايا بضاعته. لحظات الرعب أمام الفندق، وعلي بعد خطوات ليست قليلة، شاهدنا أسرة سودانية، مكونة من 5 أفراد تركض علي الرصيف الموازي للفندق، بجوارها أمتعتها، اقتربت منها لسؤالها عما حدث لها، فأجابت فاطمة محمد :"جئت مع أسرتي للقاهرة منذ شهر تقريبا، كي أكون بجوار والدتي المريضة، التي تم حجزها في أحدي المستشفيات، وفضلت الإقامة بفندق بوسط البلد، ومن وقتها وأنا أقطن ب"الأندلس". وأضافت أن الحريق أصابهم بحالة من عدم الوعي، جعلتهم ملتزمين أماكنهم لم نستطع التحرك، شل تفكيرنا، لاسيما وأنه من الصعب نزولهم من الدور السابع علي سلالم الفندق. وتابعت:"كل من كان بالدور خرج تاركا غرفته، منتظرين من ينقذنا، كل هذا جعلنا مكبلي الأيدي الي ان ساعدنا العاملون بالفندق حيث انهم قاموا بوضع سلم خشبي علي سطح عمارة مجاورة ونزلنا من خلاله علي العمارة الأخري. مضيفة: "رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بالفندق الا ان أصحابه لم يتركونا بل وفروا لنا مكانا آخر تابعا لهم للاقامة به". أثار الدمار بنظرة عابرة داخل أحد المحال، أسفل الفندق رأينا الكارثة شاخصة أمامنا، محل كبير علي ناصية الشارع، به فتارين زجاجية، ممتدة من الأرض إلي السقف، مليئة ببضاعة ، مفاتيح وخردوات من الحديد، عليها أقفال حديدية كي لا يستطيع أحد سرقتها، إلا أن القدر كتب لها أن تتلف مع أنها لم تسرق، حيث تخللتها المياه، من أعلي إلي أن استقرت علي الأرض، مكتبان مقسومان نصفين كما لو كان شخص فعل ذلك، وقف صاحبه ينظر إلي ما آل إليه حاله ضاربا كفا علي كف، مرددا "اللهم أجيرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منها"، دون أن يلمحني، فما أن رآني حتي تحدث معي بصوت خافت:"أنا جيت صباح يوم الحريق الساعة 12 ظهرا، لاقيت الدنيا كلها مولعة في الفندق بس مش عارفين لحد دلوقتي إيه اللي وصل الحريق بالشكل ده لباقي العمارات التانية، ده أكيد بفعل فاعل، عمالين بيحرقوا الدنيا وياخدوا عاطل مع باطل، طب أنا ذنبي إيه. "م.ع" صاحب مخزن آخر: المخزن بتاعي ولع كله وفيه بضاعة ب 70 ألف جنيه، الغريب أن بضاعتي كلها عبارة عن مسامير وحديد ومع ذلك ولعت كلها وبقيت كوم تراب،والحكومة بتقول هتديني تعويض 5 ألاف جنيه أعمل بيها إيه". وتساءل ناجي الطيب صاحب محل للملابس الجاهزة:"اشمعنا يوم الأحد بالذات اللي الدنيا بتولع فيه، وقبل المواسم من أسبوعين الدنيا ولعت قبل شم النسيم بيوم في محل جنب صيدناوي، ودلوقتي الرويعي كله بيولع، لو عمارة واحدة نقول حريق عادي، لكن اكتر من 6 عمارات تتحرق في ساعتين بيها مليارات الجنيهات، ده خراب بيوت وما يرضيش ربنا". من يصدق أن رمادا سوداء، ملقاة علي الأرض وسط أربع جدران مفحمة بلون يكسوه السواد الحالك، هي نفسها بضاعة أحذية تقدر بمليوني جنيه، لم يتبق منها سوي علب الكرتون الفارغة، التي نزع صاحبها إحدها من أسفل القاع قائلا:"شوفي هي دي بضاعتي، تقدري تقوليلي أبيع إيه ا البضاعة اتحولت إلي تراب، والمشكلة الأكبر أن 2 مليون جنيه مش فلوسي لوحدي أنا مجرد شريك مع 5 أفراد جمعنا فلوس من بعض عشان نجهز لموسم رمضان والعيد، يعني مش بيتي أنا لوحدي اللي اتخرب ده بيوت ناس اتشردت كتير غيري". ومثلما يقال مصائب قوم عند قوم فوائد، في الوقت الذي يبكي فيه التجار حالهم، وجدنا آخرون يبحثون في كل شبر علي الأرض وسط البضاعة التالفة عما ينفعهم من أحذية وبالفعل منهم من اخذ يجمع أطقم بعينها من الأحذية بعد عناء شديد لم يمسها سوي الماء الملقي أرض. مأساة الرويعي علي الرغم من عدم كبر مساحة شارع الرويعي، إلا أنك تشعر وكأنه اتسع ليشمل الضحايا الذين لا تقل مصيبتهم في خسائرهم عن التجار، تعرفهم منذ الوهلة الأولي، حيث الحسرة تكسو وجوههم. كل منهم جالس علي الرصيف المقابل لمكان سكنه، أما علي كرس خشبي، أو ثلاجة للمياه التقطها بيده أثناء الحريق، وآخرون لم يجدوا سوي الرصيف مأوي لهم ليحتموا به من غدر الزمان، غارقين في المياه المطلة عليهم، والقمامة التي تكاد تعلو عنهم، وما أن انتهيت من سماع ما يرويه أصحاب المخازن، وفي شارع يوسف نجيب سمعت رجلا عجوزا يصرخ بصوت عال مناديا علي:"تعالي ياأبلة دقيقتين تشوفي المأساة اللي بقيت فيها، وقبل أن أبادره بالتساؤلعن سبب المأساة، بادرني والدموع فى عينيه:" شقتي أتحرقت"، صعدت معه إلي حيث يسكن، السلالم مزينة بالبضاعة المحروقة، وبمياه المطافيء، الخراطيم ممتدة بطول السلم، الأسقف تنشع منه المياه، كأن السماء تمطر عليك، دون وجود حاجز بينك وبينها، باب الشقة بالحائط المجاورة له منسوفة، وباقي الحوائط بها شقوق، وتساقط الطوب من عليها، عجلة طفل لم تنجوا هي الأخرى، وأصبحت حطاما، والكتب، والملابس مبعثرة علي الأرض، الدولاب ضلفه مفككة، لم تستطع التفرقة بين كل غرفة علي حدة، وما ان وصلنا لمقر سكنه كتي فوجئت به يصرخ :"العمارة دي كلها فيها 3 شقق سكنية، والباقي مكاتب، ومخازن، أنا عازب وساكن في الشقة لوحدي,وأخويا وأولاده الستة ساكنين في الشقة اللي جنبي، أول ما حسينا بالحريق جرينا، وسيبنا كل حاجة، بعدها طلعنا لقينا نفسنا اتسرقنا مش بس اتحرقنا،ادي حياتنا شوفي عملوا فيها إيه". النيران لم ترحم"الروف"، الذي نال نصيبه هو الآخر من الحريق، حيث قال من يسكنه:"أنا ساكن هنا وبخزن بضاعتي في نفس المكان، ومعايا 5 أولاد بيشتغلوا معايا، كل شقايا ضاع، وخسرت بضاعة بأكثر من 200 ألف جنيه، عليها أقساط، بخزنها لرمضان، دا الموسم اللي بستناه من السنة للسنة, وأنا دلوقتي ماليش مكان أسكن فيه نروح فين". التقط منه أطراف الحديث أخر قائلا:"انا مديون لتجار قماش في الأزهر بشيكات تمنها 300 ألف جنيه، واتحرقت كلها مين يسمعني ويقف جنبي". "اللي حصل ده خراب بيوت" هذا ما بدأ به عجوز كلامه، مؤكدا :"انا ساكن في الأوضة دي من 40 سنة كله راح ولا عاد في تلاجة ولا عفش ولا اي حاجة تذكر,كنت شايل 29 ألف جنيه راحوا كلهم مفيش ولا تعريفة فضلت،الحريقة بدأت 9 مساء وكتر الدخان دخلني في غيبوبة والجيران نزلوني بالعافية,بعدها وصلت المطافي الساعة 12 ليلا, ومعنديش مكان اسكن فيه". وعند سؤالهم ما اذا كانوا تحدثوا مع احد من الحكومة فأجاب:"هو احنا طايلين حد من الحكومة نتكلم معاه مفيش حد سامعنا اصلا:مطالبين بتعويضات مجزية عن خسائرهم الفادحة". حالة يرثي لها تلك التي أصبح عليها كل فرد يقطن بهذه المنطقة، الكل أصبح مشردا "سواء صغيرا أوشابا أو كاهلا,ساكنا أو تاجرا"، وطالته يد الخراب والدمار,تجدهم حياري من أمرهم لا يدرون ماذا يفعلون,أو لمن يذهبون,وأي من المسئولين سيسمع شكواهم ويعوضهم ولو جزء بسيط مما فقدوه.