الإسلام كما يراه العامة، وكما يتجلى فى الأدب العربى.. يثير هذا الكتاب أسئلة مهمة حول الفجوة التى تفصل المثقف العربى عن العامة كما يفسر الفجوة التى سمحت لتيارات سلفية بالظهور ثانية على حساب الفكر النهضوى. «إسلام الشارع: الدين فى الأدب العربى الحديث»، كتاب ألفه د. محسن جاسم الموسوى، ونشر عام 2009، قد فاز بجائزة Choice من مجلة الناشرين الأمريكيين، التى تنتقى كتبًا متميزة فى الأسلوب والطرح والعرض. كما تصدر الكتاب اختيارات المجلة عام 2010. صدر حديثًا عن المركز القومى للترجمة، برئاسة الدكتورة كرمة سامى، ومن ترجمة هاجر بن إدريس، أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة تونس، وذلك بالتعاون مع مشروع كلمة للترجمة. نجيب محفوظ استطاع الموسوى أن يخرج من الصرامة الأكاديمية ومنح الكلمة نغمة لتنساب جزلة عميقة. كما ألحق بها الاقتباسات والهوامش، مما يجعل من الكتاب مرجعًا مهمًا لمن يريد أن يبحث فى مفهوم العامة للدين الإسلامى. ولهذا لم يتوقف الكتاب عند الفقهاء والمحافظين منهم بخاصة، وإن كان قد أشار إلى الهوة الواسع بينهم وبين الدين كما يمارسه الناس. لكن الكتاب الذى يجعل من هذه المفارقة خيطًا جامعًا لمناقشاته يريد أن يرصد تحولات الذائقة بين صفوة القوم، من محافظين ومجددين، منذ بدايات ما يسمى عصر النهضة، هنا يتوقف الدكتور الموسوى مليًا عند الكتاب المؤثرين فعلًا فى الحياة العامة، والذين حملوا مع ذلك لواء السخرية من ممارسات الفئات المختلفة للطقوس الدينية. ويرى أن هذه القطيعة، وما يرافقها من سخرية من الطقوس الشعبية قادت إلى أمرين: أولهما السماح للتيارات السلفية المحافظة باستثمار الفراغ الناجم عن هذه القطيعة التى تتفاقم باستمرار، وتتضح أكثر فى الخمسينيات وما تلاها، وثانيهما ازدهار التنظيم السياسى لهذه التيارات السلفية. ويرى ضعف الدولة الوطنية، وتخبطها فى البيروقراطية والفساد الإدارى. وقلة الدراية بالشأن السياسى واستراتيجية تسيير الأمور. كل ذلك وسع الشقة وزاد من البحث عن ملاذات أخرى فى ظل العوز الفقهى والاجتماعى والفكرى. ويمر على الكتابات المختلفة من قصص وروايات ودراسات يرى أنها ترسم مجتمعة طبيعة هذه الهوة المتفاقمة. يوسف إدريس - صورة أرشيفية ولكن ما يذكره من نتاج الكُتاب عن أيام طه حسين، وقنديل أم هاشم ليحيى حقى، وغيرهما لا يعنى استمرارية ما، لأن العقد السادس يشهد أمرًا مختلفًا عندما استيقظ جيل جديد من الشباب الذين خرجوا من السجون، ورأوا مشكلات الإدارة الوطنية، ووعوا أيضًا مشكلة الاكتفاء بالفئات الوسطى مادة للسرديات. وتحول هذا الجيل إلى عدة اتجاهات: أحدها هو التجريب الفنى الذى برع فيه جيل إدوارد الخراط، وثانيهما الإفادة من التاريخ لنقد الدولة الوطنية وشخوصها نقدًا مبطنًا، واتخاذ ذلك جسرًا للعبور إلى (المتصوفة) على أنهم يقدمون ممارسة وفكرًا وفهمًا أوسع للإسلام، يتيح للفئات الشعبية مجالًا أوسع للممارسة الطقسية. هنا يتوقف عند عدد من هذه الكتابات، منها رواية «الزينى بركات» لجمال الغيطانى، حيث يبرز الشيخ الصوفى أبو السعود ندًا فقهًا وممارسة لممثلى السلطة الديكتاتورية. وهذا التطور مهم جدًا، مقارنة بالهامش الصغير الذى منحه الرائد نجيب محفوظ لشيوخه كالجنيدى. فى «اللص والكلاب»، قبل أن يتوسع فى ذلك، ويتساءل فى المفاهيم المتنوعة للإسلام فى «الحرافيش» و«ليالى ألف ليلة» و«رحلة ابن فطومة»، لكن الرواية- السيرة التى يتوقف عندها الموسوى مليًا هى رواية «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، التى صدرت سنة 1969. كانت رحلة الطفل عبد العزيز، ابن شيخ المتصوفة المزارع عبد الكريم، مهمة فى تبيان محنة أجيال تبحث عن مرفأ أيام الزيارات السنوية للمراقد أو مرقد الإمام السلطان سيد البدوى، الذى يجعل من طنطا مدينة واسعة غنية، تعتمد على ريف عبد الكريم وصحبه. لكن محنة الطفل عبد العزيز تتجاوز ذلك، لأنها تأتى أيام مراهقته، وانتقاله أثناء السنة الدراسية لمدينة طنطا. هذه الانتقالات تنطوى على تحولات هى فى النتيجة تحولات أجيال من معتقد إلى آخر. وتتبلور مفاهيم التقاطعات المستجدة ما بين إسلام العامة، أو إسلام الشارع، وطرائق تسييس الدين أكثر فى قراءة (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسوانى، بصحبة روايات أخرى فى الوطن وخارجه، كلها تبحث فى هذا الخندق العميق، الذى لا يشبه الخندق الفكرى، أو التحول من الإيمان الأولى إلى الفكر الوجودى عند سهيل إدريس، أحد أبرز الأسماء المؤثرة فى جيل الخمسينيات والستينيات. إدوار الخراط ويشير الموسوى فى مقدمته إلى أنه يحاول الإجابة عن سؤال مُلح يتعلق بالتحول الأيديولوجى الصادم والمباغت للمثقفين اليساريين، وبخاصة الروائيين والشعراء منهم الذين انتهجوا جادة التصوف فى مرحلة ما من حياتهم. ومع أن بعض الدارسين كانوا قد ألموا بالعلاقة الوطيدة بين التصوف والوجودية والماركسية، فالمجال لا يزال متسعًا لدراسة أشمل للنتاج الأدبى، من شأنها أن تضع هذا التحول على المحك، وأن تؤدى إلى فهم أعمق لهذا المنحى فى الأدب، الذى ظهرت بداياته فى سبعينيات القرن الماضى. ولئن تركز اهتمامه على النتاج الأدبى العربى، فإن ذلك لا يعنى انتقاصًا من الدور الذى لعبته الكتابات غير الأدبية التى أنتجها العرب وغيرهم منذ أواسط القرن التاسع عشر. فهذا الكتاب يطرح أساسًا مسألة تخطى النتاج الأدبى للحدود الضيقة للاختصاصات. وهو نتاج ثرى يمكننا من الوقوف على زوايا مختلفة، والنظر فى مواقف معينة نحن فى أشد الحاجة إليها، لنتلمس الإجابة عن أسئلة ما فتئ القارئ يطرحها، تتعلق بما يسمى بالطفرة الجديدة لإسلام العامة. محسن جاسم تحدث الموسوى عن أهمية الأدباء، مشيرًا إلى قول ألبير كامو، إن الروائيين العظماء هم روائيون فلاسفة، وليسوا مجرد كتبة، وأعمالهم الإبداعية هى نتاج فلسفة يعبرون عنها باستمرار فى تجليها وكمالها. ثم يضيف فى تأكيده على أهمية الأدب بأن «الفكر يتوقف بمحاكاة» الواقع، لأنه غير قادر على «تهذيبه». فالكتاب العرب شديدو الانشغال بالأوضاع التى يعيشونها. فقد طرح كل من يوسف إدريس فى قصته القصيرة «لغة الأى أى»، وفؤاد التكرلى فى قصصه القصيرة، وفى روايته الرجع البعيد مسألة الاختيار الذى ينعتق بالواجبات الاجتماعية والهوس الأخلاقى. وفى هذا العالم، لا يجد الدين مكانًا له، فالاختيار يكون مسألة علمانية بالأساس. ومن السخرية بمكان أن تنسجم هذه الرؤية مع خطاب التنوير. لم يكن هذا الأدب الناشئ مشغولًا بالحضور الفعلى للإسلام على أنه جزء من وعى جماعى يطفو على السطح فى أزمات الإصلاح والمحن والنكبات والحصار والحرب والاحتلال. إذ إن حضور الدين باعتباره عزاء أمام الفساد والانحطاط، خاصة فى الرواية الجزائرية، ووجوده باعتباره عنصرًا قويًا فى الوعى الجماعى كان ظاهرة قليلة الانتشار فى المشرق العربى. وقد استطاعت الرواية الجزائرية، التى أصبحت متاحة للقراء فى الخمسينيات والستينيات خاصة، أن تسهم بالعديد من الإضافات، فكاتب ياسين مثلًا توخى فى روايته أسلوبًا جديدًا متكاملًا مع التراث السردى العربى مع تكيفه مع الرواية الفرنسية. اتخذ أبطالا من عامة الجزائريين الذين أنجبتهم زيجات مختلطة، وهو ما يناسب دولة ترزخ تحت احتلال دام أكثر من قرن. وللرواية إضافة أخرى تتمثل فى عدم انطوائها على مواقف أيديولوجية أو نماذج حداثية للسرد. فهناك إسلام نقى، كنقاء الرسول، وهناك أيضًا مؤسسات تتلاعب به من أجل مصالحها الذاتية. ويدير هذه المؤسسات مشرفون لا يقلون فسادًا عنها. غلاف الكتاب ويجدر أن نلحظ هنا أن الأدب العربى فى المشرق والمغرب لم يستجب إلى الحاجة الملحة للتواصل مع الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إلا بعد حرب يونيو 1967. وقد تطور هذا الجنس الروائى ردًا على الاحتلال. وكشف القناع عن القوة الغاشمة للمحتل وفساده، ووقعت مساءلة أكاذيب الحضارة والتقدم التى سوقها للشعوب المحتلة. مع صعود الفكر العلمانى، فى أواخر العشرينيات من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، لم يتحدث المثقفون العرب، بمن فيهم من اليساريين، عن الدين بوصفه واقعًا مؤثرًا فى بُنى الوجدان وتياراته إلا قليلًا. بل إن موقفهم الثابت منه كان يميل إلى الازدراء أو يتسم بالكثير من المجاملة، فلم يكن الدين يمثل وجهًا من اهتماماتهم، واستعملوا صوره فى الروايات، إما للحط من شأنه أو لإعلانه بطريقة لا تتماشى مع حقيقة وجوده فى حياة الناس وممارستهم. ونرى ذلك مثلًا فى رواية توفيق الحكيم عصفور من الشرق، حيث صُعق بطلها محسن عند سماع صديقه الفرنسى أندرى يتحدث عن المقهى والكنيسة على أنها «فضاءات عامة»، إذ إن الكنائس والمساجد فى نظره تستمد قوتها التمثيلية من ارتباطها بالجنة. إلا أن فهم الحكيم للفضاء التمثيلى لا يمكن أن ينتزع من سياقه، ويجدر أن نلحظ هنا أن للمسجد مهمة مغايرة فى الإسلام، حيث لا تمثل الطقوس الأخرى إلا جزءًا من وظيفته. وفى حقبة الاستعمار التى كتب فيها الحكيم روايته كان المستعمر يتعمد تحقير المساجد والمقدسات، وهو ما نبه إليه العديد من الكتاب فى نصوصهم، وتحدثوا عن تدنيس هذه الفضاءات الدينية وهدمها وتخريبها. فى خاتمته يؤكد الموسوى أنه لم تكن الحماسة الدينية بالضرورة ردة فعل على الأيديولوجيا العلمانية أو هجمات المحافظين الجدد على الإسلام. كما أن العديد من الشيوعيين توجهوا إلى الدين بحثًا عن اليقين. وهو ما تصوره مثلًا رواية نساء على سفر لروائية العراقية هيفاء زنكنة، التى تجعل من كريم القائد الشيوعى يندفع إلى الدين إثر خيبة أمه فى الحزب الذى ينتمى إليه. إلا أن الماركسيين الجدد ذهبوا إلى منعطف آخر فى تأويل هذا الرجوع إلى الدين، فرأوا فيه طريقة لتوطيد العلاقة مع الجماهير. ولن يتمكن المثقفون الحداثيون العرب من المحافظة على الروابط العاطفية التى تجعلهم ملمين بانشغالات الجمهور واحتياجاته، ما لم يفهموا الدين والتراث جيدًا، وما لم يتشبعوا إيمانًا بثقافتهم. لقد فقد الكتاب العرب دورهم الطلائعى فى التحركات الاجتماعية والسياسية، وهم فى أمس الحاجة لتقويم دورهم ونقده، ثم تقديم تصور جديد له، حتى يتمكنوا من التآلف مع إسلام الشارع. يعمل الدكتور محسن جاسم الموسوى أستاذًا للدراسات العربية والمقارنة فى جامعة كولمبيا، نيويورك. وكان قد عمل أستاذًا من قبل فى الجامعة الأمريكية بالشارقة، وله خبرة أكثر من 20 عاما فى التدريس فى عدد من المؤسسات التعليمية فى الشرق الأوسط. كما شغل إدارة آفاق عربية والشؤون الثقافية طيلة الثمانينيات فى العراق، له عدة دراسات نشرت فى الدوريات والمجلات المتخصصة فى العديد من الأقطار العربية، وله خبرة أكثر من 20 عاما فى التدريس فى عدد من المؤسسات التعليمية بالشرق الأوسط.