د. فريال غزّول.. وقصة وفاء لزوجها الراحل نيقولا هوبكنز

من أمتع ما قرأت فى شهر رمضان قصة عِلم الأنثربولوجيا فى مصر فى القرن العشرين، الذى ألفه باقتدار الراحل الدكتور نيقولا هوبكنز، الذى كان يعمل أستاذًا للأنثربولوجيا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقامت بترجمته بلغة عربية رصينة د. فريال غزّول، زوجته وإحدى تلميذات المفكر الفلسطينى - المصرى - الأمريكى إدوارد سعيد، والتى شغلت بدورها موقع أستاذة الأدب المقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ أواخر السبعينيات إلى الوقت الحاضر (2022). وهى تَعتبر وبحق مصر وطنها بالتبنى، حيث عاشت فى مصر مع زوجها الراحل القسط الأكبر من حياتهما، وأنجبا ولديهما (عُمر وزياد) فى مصر، وربيانهما
كمصريين -عرب- أمريكيين.
وبعكس أستاذها الراحل د. إدوارد سعيد، الذى كتبت سيرة حياته فى كتاب بعنوان (منَ لا وطن له Out of Place)، فإن د. فريال غزّول تؤمن بأن لكل عربى وطنين، وطنا مولده (العِراق، سوريا، اليمن، السعودية، أو تونس)، ومصر كوطن ثانٍ. فهى من الجيل العربى الذى اكتسب الوعى السياسى فى حقبة المد القومى الناصرى فى منتصف القرن العشرين.
وبقدر وفاء د. فريال غزّول لانتماءاتها العربية المركبة (كَعِراقية- مصرية)، فإنها بنفس درجة الحُب والوفاء لزوجها الراحل، وفخورة بإنجازاته التى كان أحدها كتابه الفريد: «الأنثربولوجيا فى مصر: 1900-1967»: الثقافة، الوطنية، الإصلاح. ونشرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2022، والطبعة العربية عن المركز القومى للترجمة، بعدها بعِدة شهور فى نفس العام 2022.
ولأن عِلم الأنثربولوجيا ظل فى مصر إلى سبعينيات القرن العشرين يختلط بعِلم الاجتماع، فقد تخصصت أنا فى العِلمين معًا منذ عام 1956، مع بداية دراستى الجامعية الأولى فى كُلية الآداب بجامعة القاهرة. وكان علِم الأنثربولوجيا فرعًا من عِلم الاجتماع، وظل ذلك مفهومى للعلاقة (أصلا وفرعا)، إلى أن انتقلت للدراسات العُليا فى الولايات المتحدة، وهناك تعلمت أن الأنثربولوجيا عِلم اجتماعي- أنثربولوجى أصيل، وأن المشتغلين به ربما كان عددهم فى أمريكا مثل عدد المشتغلين بعِلم الاجتماع أو حتى أكثر، لأن الاهتمام بسُكان أمريكا الأصليين، الذين كُنا نُلقبهم بالهنود الحُمر، كانوا موضوعًا رئيسيًا فى عِلم الأنثربولوجيا.
المهم.. عودةً إلى الراحل الكبير زوجها د. نيقولا هوبكنز، تعمق الرجل فى كتاب الأنثربولوجيا فى مصر بروّاد لم أكن عرفتهم، أو فقط سمعت عنهم، منذ بداية القرن العشرين - مثل الأجانب أوربك بينس (1883-1918)، وجورج لجران. وتلاميذهم من المصريين الذين يُعدون روادًا لعِلمى الأنثربولوجيا والاجتماع، ومنهم محمد جلال (1905-1943)، وعلى أحمد عيسى (1908-1995)، والأب هنرى حبيب عريوط (1907-1969)، وعباس مصطفى عمّار (1904-1974)، وحامد عمّار (1921-2014)، وأحمد مصطفى أبوزيد (1921-2013)، وليلى شكرى الحمامصى (1925-2009)، وسيد عويس (1923-1989)، مع عرض مُختصر لأهم دراسات وكُتب كل منهم.
وكان الأهم فى نظرى هو العرض التحليلى المفصل لأهم المشروعات البحثية الجماعية، التى تُعتبر فى مُجملها بمثابة تاريخ اجتماعى لمصر فى القرن العشرين.
ومن ذلك الدراسات المهمة لمناطق النوبة ورأس حَلفا، والتى وثّقت وحلّلت وشرحت التكوينات الاجتماعية والقبلية والعشائرية، وأساليب حياتهم، وفنونهم الأدائية والتعبيرية. وذلك كله قبل أن يتسبب مشروع السد العالى (1960-1965) فى إغراق قُراهم وإعادة توطينهم فى مواقع وقُرى جديدة، شمال موقع السد، فى محافظتى أسوان وقنا. ورغم أن القُرى الجديدة كانت نموذجية التخطيط والبناء، إلا أنها لم تكن نتاجًا محليًا وطبقًا لأمزجة وطبائع وتفضيلات أهل النوبة.
فرحمة الله على الأنثربيولوجى القدير نيقولا هوبكنز.. وشكرًا لأرملته الوفية المُترجمة الرصينة فريال غزّول على ذلك الكتاب المرجعى النادر: «الأنثربولوجيا فى مصر 1900-1967».
.. وعلى الله قصد السبيل
semibrahim@gmail.com