تجرى جامعة برلين الحرة حاليا تجارب لتصنيع سيارة يتم توجيهها بإشارات من المخ البشرى.. ورغم أن الفكرة قد تبدو خيالية، فإنها تتحول بالفعل لحقيقة واقعة، وقد أجريت أول تجربة لهذا المشروع منذ أسابيع.. ولو نجحت هذه التجارب سوف تحدث ثورة فى عالم صناعة السيارات لا يمكن تصور تأثيراتها. هذا البحث نتيجة لجهود علماء وباحثين فى جامعة برلين الحرة.. وإنشاء هذه الجامعة قصة ذات دلالات كثيرة وعميقة.. فبعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن هناك جامعات فى الشطر الغربى من برلين.. فقررت مجموعة من الطلبة والعلماء إنشاء جامعة.. وساندهم الأهالى، فمنهم من تبرع بمنزل خاص، ومنهم من تبرع بمبنى يمتلكه، ومنهم من تبرع بالمال.. وكان الأساتذة يلقون محاضراتهم على أضواء الشموع بسبب الانقطاع الدائم للكهرباء عند نشأة الجامعة عام 1948.. وقد سميت «الحرة» تعبيرا عن حرية البحث العلمى بها واستقلاليتها عن الحكومة مقارنة بالنظام المركزى الذى كان سائدا فى الشطر الشرقى لبرلين آنذاك.. واستمرت مسيرة جامعة برلين وتطورت.. فأصبحت لها ميزانية ضخمة.. تدفع الحكومة الألمانية للجامعة 200 مليون يورو سنويا، ويدفع رجال الأعمال 90 مليون يورو.. ورغم ذلك، لا تملك الحكومة أو أى رجل أعمال ممن تبرعوا للجامعة أو أى جهة التدخل فى سياساتها أو أبحاثها العلمية.. أما الطلاب فلا يدفعون سنتا واحدا مقابل تلقى العلم فى هذه الجامعة.. سواء ألماناً أو وافدين.. وكانت الجامعة تقبل 64 ألف طالب سنويا، ولكنها قلصت هذا العدد للنصف مؤخرا لضمان جودة التعليم بها.. والتعليم فى هذه الجامعة الفريدة يسير فى اتجاهين متقابلين بين الأستاذ والطالب، فليس معنى أن الأستاذ يشرح أن الطالب لا يفكر ولا يعبر عن رأيه.. وإلا لا يحدث التفاعل ولا تنتج الأفكار.. والبحث العلمى يقوم على الأفكار.. أما الدراسات العليا بها فيتم اختيار طلابها بواسطة الأساتذة فقط، وبشفافية تامة.. فلا يستطيع الأستاذ أن يختار ابنه أو قريبا له ويترك طالبا متميزا آخر، وإلا ستفقد الجامعة ميزتها التنافسية وتفقد جودتها العلمية، وبالتالى سيفقد هو وظيفته ومكانته العلمية.. ويشترط أن تكون البحوث تنافسية وليست مجرد بحوث مكررة بغرض الحصول على درجة علمية.. والأستاذ فى جامعة برلين الحرة أستاذ فقط، والطالب طالب فقط، فلا حرس جامعى، ولا مظاهرات من أجل زيادة الرواتب، ولا مواقف سياسية.. المهمة داخل الجامعة علم وتعليم بجودة مرتفعة.. وأصبحت جامعة برلين الحرة الآن واحدة من أفضل 100 جامعة على مستوى العالم، ولكن الأساتذة والعلماء بها غير سعداء بهذا التصنيف لأنهم يسعون لأن يكونوا من أفضل 10 جامعات على مستوى العالم على الأقل. وجامعة برلين نفسها جزء لا يتجزأ من التجربة الألمانية التى تقوم على مبدأ الجودة فى كل شىء.. والعلم والتعليم هما أساس هذه الجودة وضمان استمرارها.. ففى لقاءات متعددة نظمها الدكتور أشرف منصور، رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية، الذى يحظى بتقدير كبير فى ألمانيا، تبادل بعض الكتاب المصريين الرؤى مع بعض المسؤولين الرسميين وغير الرسميين فى ألمانيا.. وكان التعليم هو القاسم المشترك.. فبينما يتخوف الدكتور كريستيان بودا، رئيس هيئة التبادل العلمى الألمانية– وهى أكبر مؤسسة للتبادل العلمى فى العالم– من تأثير الأزمة المالية العالمية على ميزانية مؤسسته التى بلغت 400 مليون يورو العام الماضى، والتى تدفع 95% منها الحكومة الألمانية والاتحاد الأوروبى و5% فقط من القطاع الخاص.. أكد رئيس القسم الثقافى بالخارجية الألمانية ضغط الإنفاق الألمانى فى كل شىء إلا التعليم والبحث العلمى والتبادل العلمى والثقافى، وكشف أن 25% من ميزانية الخارجية الألمانية موجهة للتعاون العلمى والثقافى مع مختلف دول العالم، وهو مبلغ يوازى 750 مليون يورو.. وكان الدكتور أوتكر رجل الصناعة الألمانى الشهير يرى أن دعم رجال الأعمال للتعليم والبحث العلمى ضرورة ملحة لضمان جودة الصناعة الألمانية.. أى أن العلم والتعليم هدف محدد وواضح عند المجتمع الألمانى كله، ولا اختلاف فى درجة الوضوح بين الحكومة والشعب ورجال الأعمال أو أى من جماعات المصالح. هذا هو النموذج العام لتقدم الأمم.. فالحرية كاملة ومكفولة للجميع.. والتعليم أولوية أولى.. وهو ليس تجارة، ولكنه مسألة حياة أو موت.. والجامعات تقوم على التنافسية لضمان الجودة والتفوق.. والنتيجة أن ألمانيا التى خرجت من الحرب العالمية الثانية مكروهة من العالم كله ومحطمة اقتصاديا، نهضت وتفوقت وأصبحت محل احترام العالم كله.. أما الأهم فى التجربة الألمانية فهو المجتمع نفسه الذى قرر أن ينهض واختار نظاما لنفسه، فأصبحت الحسابات السياسية ترتكز على قوته وتعمل على تحقيق إرادته.. وعلى قدر إرادة المجتمع يكون حجم التغيير. أرجو ألا نكتفى بالمقارنة فيصيبنا اليأس والإحباط.. ولكن المطلوب أن نستفيد من التجربة ونحدد ما الذى نريده فعلا. [email protected]