فى كتاب أنهاه قبل رحيله بخمسة أيام .. وصيّة إبراهيم البحراوى الأخيرة

أنهى الدكتور إبراهيم البحراوى، أستاذ العبرى الراحل، وألمع دارسى الاتجاهات الأدبية والدينية والاجتماعية فى إسرائيل، مذكراته، قبل وفاته بخمسة أيام، فى تأكيد هادئ- كطبيعته- على أن العطاء يجب أن يستمر إلى آخر دقيقة فى العمر. بعد رحيله فى 5 يناير 2020 تولت حرمه السيدة رندا الزغبى مسؤولية نشرها لتصدر قريبا عن دار الشروق بعنوان «حكاية مصرى مع إسرائيل». دعا البحراوى فى السطور الأخيرة من الكتاب كل أب وكل أم إلى أن يأخذوا أولادهم لزيارة تبة الشجرة، وهى الموقع القريب من الإسماعيلية، وكان يتحكم وحده فى 8 نقاط حصينة من 18 نقطة حصينة لخط بارليف، وأسقطته إحدى كتائب المشاة المصرية المدعمة بالدبابات، خلال 25 دقيقة أيام حرب أكتوبر. توقف المؤلف طويلا عند طفولته ونشأته ببورسعيد (الميلاد 1944) وسط صخب حربى ودوى مدافع وأزيز طائرات وقرقعة عساكر المعتدين والغزاة من المحتل البريطانى، ثم خلال العدوان الثلاثى الأنجلوفرنسى الإسرائيلى الأخير كان أحد أهم دوافعه لدراسة اللغة العبرية. يصف الكتاب بلغة سرد تلقائى غنى بالتفاصيل الدالة وبالعمق العلمى والوطنى والإنسانى، مشهد قيامه بمواجهة الأسرى الإسرائيليين أكتوبر 1973، وتفاصيل ما سمّاه مهمة استطلاع خلف خطوط العدو عبر الشعر 1973- 1975،- أى معرفة ما يخفيه العدو من خلال أدبه- ثم ما وصفها بأنها معارك زمن التعاقد السلمى بعد كامب ديفيد والصراع النفسى الذى عاشه، منتقدا المعاهدة، وحريصا فى نفس الوقت على العمل بنهج خذ وطالب. ورفضه العمل بالسفارة المصرية بإسرائيل وتقدير ياسر عرفات له، ولاحقا رفضه مقابلة نتنياهو 1997 وقصة صفحة «كيف تفكر إسرائيل» بجريدة الأخبار ورد فعل الإسرائيليين عليها. ونعيش معه أحداث سبتمبر 1981، ومعركة وثائق الجنيزاة بين مصر وإسرائيل، وللدكتور البحراوى مأثرة لا تسنى فى الحفاظ عليها فى أمان، فى مواجهة محاولات إسرائيلية مستميتة للحصول عليها أو حتى على بعضها. يسرد تفاصيل خوضه معركة عروبة القدس مع دكتور يوسف زيدان ودكتورمردخاى كيدار 2016. كانت الخبرات العلمية والعملية للبحراوى قد بدأت بمهمة الترجمة بين المحقق المصرى والطيارين الإسرائيليين الأسرى عام 1967ثم انتقل إلى الاستطلاع العلمى لتأثير الضربات المصرية خلف خطوط العدو وداخل مجتمعه أثناء حرب الاستنزاف بين أكتوبر 1967 وأغسطس 1970. فى هذه المهمة قام بتطبيق منهج دراسة المجتمع المعادى عن بعد عبر الأدب، خاصة بعد أن اكتشف أن السلطات الإسرائيلية تتعمد التعتيم على أخبار الضربات المصرية خلال حرب الاستنزاف حفاظا على المعنويات، واكتشف من خلال مطالعته للملاحق الثقافية والأدبية التى تصدر كل يوم جمعة مع الصحف، أن الأدباء الإسرائيليين كانوا يهربون من الرقيب العسكرى وينشرون القصائد والقصص القصيرة التى ترصد الضربات المصرية وتكشف عن الآلام الناتجة عنها وتفصح عن التفاعلات الفكرية والنفسية لدى الجمهور الإسرائيلى معها؛ فعكف على دراسة هذه الأعمال الأدبية وترجمة نماذج منها. بعد حرب أكتوبر، انتقل إلى دراسة مشاعر ومفاهيم أسرى الحرب الإسرائيليين ضمن فريق من الباحثين قاده أستاذه فى علم النفس دكتور مصطفى زيور. أثناء الاجتياح الإسرائيلى للبنان 1982 كرس صفحة كيف تفكر إسرائيل لمناصرة لبنان والأشقاء فى منظمة التحرير الفلسطينية، مما دعا الصحافة الإسرائيلية إلى إطلاق تسمية (فتح لاند) على الصفحة. ظل البحراوى ملتزما حتى آخر لحظة فى حياته بحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وأطلق شعار (لا تطبيع ثقافى بدون دولة فلسطينية)، وكان قد كرس كتابات وأحاديث تليفزيونية عديدة لصد محاولات الاختراق الفكرى الصهيونى ومحاولات إسرائيل لنفى عروبة القدس، وواصل دحض محاولات إسرائيل ادعاء الانتصار فى حرب أكتوبر، ومحاولتها إضعاف الالتزام المصرى بالقضية الفلسطينية. وفى أكتوبر عام 2018، شعر بضرورة تسليم الراية لجيل جديد، فأسس مع رفاق الخندق والوجدان المصرى والقومى «المنتدى المصرى للدراسات الإسرائيلية» وجعل رسالته توريث خبرات جيل الأساتذة لجيل الأبناء.