كان لدراسة الأدب الإسرائيلى أثر كبير فى النصر المجيد الذى حققه الجيش المصرى فى حرب أكتوبر، فقد عمل خبراء مصريون من المتخصصين فى دراسة الأدب العبرى على تشريح المجتمع الإسرائيلى ومعرفة مواطن قوته وضعفه من خلال نتاج أدبائه من شعر وقصة ورواية، فتمكنوا من كشف ما حاول الإسرائيليون إخفاءه بواسطة الآلة الإعلامية والقوة العسكرية الغاشمة. ومن هؤلاء الخبراء كان د. إبراهيم البحراوى أستاذ الأدب العبرى بكلية الآداب جامعة عين شمس، ومؤسس المدرسة العلمية لدراسة المجتمع المعادى عن بعد عبر الأدب، وصاحب أول كتاب في المكتبة العربية عن أدب الحرب الاسرائيلى عام 1972، وهو عضو الفريق الوطنى لدراسة مفاهيم ومشاعر أسرى الحرب الإسرائيلين عام 1973.. ومعه كان هذا الحوار. كيف تناول الأدب الإسرائيلى انتصار الجيش المصرى فى حرب أكتوبر وعبوره قناة السويس؟ كانت الحالة العقلية السائدة فى المجتمع الإسرائيلى بعد انتهاء حرب الاستنزاف هى حالة الثقة المفرطة فى النفس، وفى القوة العسكرية الإسرائيلية؛ غير أن الأدب بالتحديد كانت لديه الحساسية لرصد احتمالات الزلزال المقبل. وظهرهذا فى بعض الأعمال الأدبية من القصائد والروايات والقصص القصيرة التى صدرت أيام حرب الاستنزاف. وعموماً فقد كان الأدب دائما مرآة كاشفة لما يدور من تفاعلات فى أعماق المجتمع الإسرائيلى- أو غيره من المجتمعات- والأمور التى لا يكشفها السطح الظاهر فى الإعلام والصحافة والوسائل السياسية. وعندما وقعت الهزيمة التى زلزلت المجتمع الإسرائيلى، تدفقت على الصحف الإسرائيلية قصائد يعبر فيها الشعراء عن إحساس الصدمة والفزع، ويصورون فيها ما يرونه حولهم فى المجتمع من حالة ارتعاش وانهيار نفسى، وكان هذا مصدرا رئيسيا لى شخصيا لرصد تأثير حرب أكتوبر على المجتمع الإسرائيلى. فقد كان الأمر, بالنسبة لى كباحث فى الدراسات الأدبية الإسرائيلية, يشبه موقف جندى الاستطلاع المكلف برصد سقوط القنابل على مواقع الأعداء، واكتشاف آثار هذه الضربات، وتصحيح اتجاهات إطلاق النار فى الميدان إذا لزم الأمر. ولذلك كانت تجربتى هى متابعة اللوحة العسكرية والسياسية من جانب، ومتابعة اللوحة الأدبية من جانب آخر. هل هناك أعمال أدبية يتجلى من خلالها هذا الأمر بشكل نموذجى؟ نعم, ولقد قمت بترجمة عدد كبير من القصائد التى تظهر هذه الصدمة. ففى كتابى «بطولات المصريين وأثرها فى الأدب الإسرائيلى» ترجمت ثلاث عشرة قصيدة أعتبرها بمثابة وثائق تاريخية فى صورة أدبية تؤكد حجم الصدمة والترويع والفزع الذى أنزلته حرب أكتوبر بالمجتمع الإسرائيلى؛ وما صاحبها من حالة دوار وفقدان التوازن وأبسط مشاعر الأمان جرفت جميع الإسرائيليين بمختلف فئاتهم. ومن بين هذه القصائد قصيدة للشاعر إسحق بولاق اسمها «نهاية ليلة»، أى نهاية «ليلة الغفران»( إشارة إلى عيد الغفران لديهم الذى تزامن مع 6 أكتوبر 1973). يصور الشاعر فى مطلعها حالة الرعب التى داهمت المجتمع الإسرائيلى وهو فى احتفالات العيد فى المعابد يتلو الصلوات ويستمع إلى الأبواق المقدسة، ويطلب الغفران، وإذا بالنداء للمسارعة إلى ميدان القتال، فيقول الشاعر: وبينما صوت البرق يتردد/ إيذانا بانتهاء النهار/ تتدافع فجأة من داخل صفحات كتاب الصلاة/ نداءات هامسة/ وتتساقط من على الأكتاف/ عباءات الصلاة/ إلى هناك/ إلى قلب المعمعة/ رمح فى مواجهة رمح/ وقطعة من الصلب/ فى مواجهة صلب/ الأرض تتلوى/ والرمال والهضاب تميد/ فى صلاة فزع/ رب العالم/ عجَّل بنهاية الطريق/ خفافيش هائجة تتخبط فى الهواء/ تحلق بلا صوت/ وعلى مبعدة من هنا/ تعمل فوهات البنادق/ تنفث من أفواهها/ الرعب... فالشاعر هنا يدعو الرب أن يعجل بنهاية طريق الألم الذى يصوره بطريقة مرعبة، فالخفافيش الهائجة تحلق فى صمت وسكون الموت المخالف لسكون الصلوات، والظلام يسود فلا ينبعث من النجوم سوى نور شحيح يحمل الخطر، والرعب تنفثه فوهات البنادق فى الميدان. وهكذا فإن القصائد الإسرائيلية توضح كيف أن هذه الحرب التى أشاروا إليها باسم «حرب يوم الغفران»، قد فجرت فى أفئدة الشعراء صورة اللهب والنيران، وأخرجت على أقلامهم مشاعر القلق والأسى والحداد والذهول التى اعترت قلب الإسرائيليين الذين كانوا يتباهون من قبل بأنهم سادة الحرب. ذكرت أن إسرائيل كانت تتبع نفس الأمر الذى اتبعتَه, فتدرس إنتاج الأدباء العرب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وسليمان فياض ونزار قبانى، وغيرهم.. هذا صحيح، بل لقد سبقونا فى هذا الأمر. فقد بدأوا هذه التجارب مبكرا فى أربعينيات القرن العشرين دون أن نعرف ذلك، فقام وزير خارجية الإسرائيلى الأسبق «أبا إيبان» بترجمة رواية توفيق الحكيم «يوميات نائب فى الأرياف»، وذلك ليكشف عمق المجتمع المصرى. وهكذا فالطرفان كانا يتعاملان كل مع أدب الآخر على أنه وسيلة لفهم مجتمع معادٍ؛ فمن خلال الأعمال الأدبية يتم بحث المجتمع المعادى ونقاط القوة والضعف فيه، وطبيعة التفاعلات الاجتماعية لكى يعرف الباحث كيف يخترق هذا المجتمع فى الوقت المناسب بالطريقة المناسبة. هذا الكلام يشير إلى أن دراسة الأدب العبرى كان لها دور مهم فى انتصار أكتوبر.. هذا صحيح.. فقد تعاملنا مع نقل وتحليل الأدب الإسرائيلى على أنه وسيلة قتالية. وأنا أعتبر هذه القصائد التى أُنتِجت تحت تأثير الحرب وثائق مهمة. ونحن هنا نطبق منهجا معروفا فى النقد الأدبى والدراسات الأدبية ذات الطابع السياسى وهو «النقد الأدبى السياسى» حيث ندرس المجتمع المعادى عن بُعد عبر الوثيقة الأدبية. ولقد أعددت رسالتى للدكتوراه عن أدب الحرب الإسرائيلى. بدأتها فى عام 1969، وانتهيت منها عام 1972. وكان لها تأثير كبير جدا فى الوسطين الثقافى والعسكرى. وما زلت أذكر الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى حينما طلب منى بعد النكسة مباشرة أن أعمل على كشف الداخل الإسرائيلى, لكى لا نكتفى بالأخبار الظاهرة التى يعرفها الجميع. وقد حفزنى هذا الموقف وغيره على تغيير دراستى, التى كنت أركز فيها على دراسات العهد القديم، إلى دراسة الأدب العبرى الحديث، وذلك لأنى شعرت بحاجتنا لهذه الدراسات. فكما كان الضباط والجنود يحاربون بوسائلهم العسكرية، أيضا الباحث الأدبى كان يطوَّر أدواته. وهكذا فقد اتجهت للأدب لكى أسبر أغوار المجتمع الإسرائيلى وأعرف تفاعلاته ليمكن أن يكون لدينا فى النهاية معرفة كاملة بالقوانين الاجتماعية والنفسية للشخصية الإسرائيلية لكى يمكن ضربها فى الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة. كُلِّفت فى فترة من الفترات بالعمل فى صفوف القوات الجوية المصرية، كما كنت عضوا فى الفريق الوطنى لدراسة مفاهيم ومشاعر أسرى الحرب الإسرائيليين عام 1973، فهل كانت دراستك للأدب العبرى مؤثرة فى قيامك بهذه المهام؟ بالتأكيد؛ لأنها أعطتنى خبرة بالشخصية الإسرئيلية، وجعلتنى أفهم سيكولوجية المجتمع الإسرائيلى، وبالتالى سيكولوجية الجندى الذى أتعامل معه. وأتذكر موقفاً تعرضت له عند استجواب أحد الأسرى أفادتنى فيه قصة إسرائيلية اسمها «أغنية البجعة» للكاتب الإسرائيلى «رأن أدلسيط». و«أغنية البجعة» مصطلح معروف فى الغرب بأنه الأغنية التى تؤديها البجعة عندما تقترب من الموت. فالدلالة هنا أنها الأغنية الأخيرة فى حياة الشخص، وقد نصحت القارئ بأن يقرأها قبل قراءته للقصائد المترجمة، لأنها تكشف الكثير من خبايا نفوس الإسرائيليين. وهى تحكى عن جنديين إسرائيليين يجلسان على حافة القناة، ويتحدثان عما دار فى الليلة السابقة والقصف المصرى الرهيب عليهم، وقد أخذا يحاولان طرح البدائل الممكنة للموقف، فطرح أحدهما مبدأ الانسحاب فاتهمه الآخر بالجنون. واستمر الحديث بينهما مؤكدا وجود تصميم عندهما على المزيد من القتل وسفك الدماء والاستمرار فى الاحتلال. وهكذا فعندما كنت فى طريقى للحديث مع الأسرى خلال أيام حرب أكتوبر، كنت أمتلك صورة عن اسلوب تفكيرهم, من مصادر متعددة أولها دراية الأدب الإسرائيلي، فكان عندى دائما توقع لما سيقولون، وعندما وصلت إلى السجن الحربى لم أندهش عندما وجدت أن الأسرى لا يختلفون عن الأشخاص فى قصة «أغنية البجعة»؛ فقد كانوا مصرين على الاحتفاظ بكل المكاسب. فعندما سألتهم عن سبب عدم قبولهم المبادرة التى قدمها الرئيس السادات للسلام لتجنب ما حدث لهم - وكانوا فى حالة سيئة من الحزن والانهيار - قال أحدهم: «ولِمَ أقبلها وقد كنت فى الوضع الأفضل؟! لقد كنا مسيطرين على القناة، وأنت لا تستطيع طردى منها». فبدا الأمر وكأنى أعيش بالفعل أحداث قصة «أغنية البجعة». وماذا تقول للأجيال التى لم تشهد أكتوبر؟ أنا أرجو من شبابنا وأجيالنا الجديدة أن يواجهوا كل من يشكك فى عظمة الانتصار المصرى فى حرب أكتوبر بقصائد الشعراء الإسرائيليين أنفسهم؛ خاصة أبواق الدعاية الإسرائيلية التى تنشط فى اتجاه التشكيك بعد مرور أكثر من أربعين عاما على تلك الملحمة المصرية البطولية اعتمادا على تقادم التجربة ونشوء أجيال عربية