استطاع الروائى ممدوح عبدالستار أن ينحت عالمًا مثاليًّا قوامه القرية المصرية وما بها من عادات وتقاليد وكذلك التبرك بالأولياء وأهل الخطوة، ليخرج من واقع القرية إلى أفق أرحب أكثر قربا من الخيال. هذا ما تؤكده روايته الأخيرة «جواز سفر» التى تضم ثلاث روايات قصيرة، وهى امتداد لمشروعه الأدبى الذى بدأه بالمجموعة القصصية «السمان يستريح فى النهر» والتى حاز عنها جائزة سعاد الصباح فى القصة القصيرة، مرورا برواية السامرى ومسرحية لغة التشابه والمجموعة القصصة ظلال، والمجموعة القصصية «للعشق الحرام» ورواية «أوراق ميت». وحاز الكاتب 13 جائزة أدبية على مستوى مصر والوطن العربى. ■ فى روايتك الأخيرة «جواز سفر»، كيف رصدت عالم القرية، وما به من تناقضات وآلام وأحلام؟ - أنا أبن القرية التى لم أبرحها مطلقًا، عشتُ بها، ولها. هى تاريخى الشخصى، والأدبى. همّى. وفرحى. أعشقها، وأكرهها فى آن. لقد كانتْ أمنيتى أن أغادرها بلا رجعة، لكنها بأفعالها، وأفعال أهلى، وناسى، رجعتُ مرغمًا، وجعلتُ من الغصب رضًا، لكننى لا أملك إلا قلمى، وورقى، وأفكارى، وطرحتُ رؤيتى على شكل رواية، وأمنية لم تتحقق، مثل كل الشباب الآن فى كل مكان، وسافرتُ فى جواز سفرى الخاص- ووجعى وفرحى- الذى لا يستطيع أحد أن يسلبه منى. ■ كيف انتقلت من الصيغة التقليدية فى الحكى إلى الحكاية الدائرية، وما بها من تشويق، وإعادة صياغة للخيال؟ - أنا عاشق للقصة القصيرة، وكتاباتى فى الرواية مثل القصة القصيرة. لقد تعلمت من رواية ماركيز «خريف البطريرك»، وروايات أخرى كثيرة، وحتى فى القرآن الكريم كما فى قصة سيدنا يوسف. هذه طريقة جيدة ومختلفة، ولم أصنعها بإرادتى، لكنها هندسة الكتابة الداخلية، والفكرة الكلية للرواية هما ما تجعلاننى أكتب بهذه الطريقة، وهذا الشكل. وعلى الكاتب أن يستعين بالخيال ليصنع رؤيته للفكرة، مع الواقع الذى نرفضه، ونحبه فى آن. ■هل استخدمت أدوات تجريب فى الرواية.. مثل الانتقال فى أحد الفصول بالشخصية الرئيسية «أبو قوطة» من هوية الذكر إلى هوية الأنثى؟ - الكتابة مثل البصمة، وأنا أكتب نفسى، والتجريب لا يشغلنى قبل الكتابة، أو بعدها. فقط أود أن أطرح هويتى، وأن أستبدل القديم بالجديد. الحقيقة التى أعرفها عن نفسى، أننى متمرد على كل شكل قرأته، أو تعلمت منه، أو سلطة أدبية، تجعلنى مسخاً. لذا يمكن استبدال الذكر بالأنثى، وهكذا، دون أن تفقد شيئًا ملموسًا فى السرد، والحكاية، والفكرة. ■ فكرة الطرد، والشتات، والتشرد محور رئيسى فى الرواية، كيف استفدت من تلك الفكرة لصناعة البطل البسيط، وتحويله إلى بطل ملحمى كلاسيكى؟ - حينما نولد، نصرخ صرخة الحياة، ونعانى. ونعيش التشتت، والتشرد، والقبول والرفض، لكننا فى النهاية نصنع أنفسنا من تجاربنا الشخصية، ورغم بساطة التجارب إلا أنها قاسية، هكذا تكون الحياة، وهكذا تكون الرواية. ■ الطمع، والتخطيط للاستيلاء على ثروة الشيخ، ودور المرأة فى هذا العمل الروائى هل ينصفها أم يهمشها، أم يعتبرها عنصرًا مركزيًّا فى الحكى؟ - المرأة أم، وأيضًا أخت، وأيضًا حبيبة، وأيضًا خائنة، ومحتالة. إنها حياة غامضة، لا يستطيع إنسان أن يحتويها، أو يمتلكها. إنها ذات متحققة رغم المجتمع الذكورى الذى يفرض وصايته عليها، ويكبلها بالأوامر، والنواهى. إنها تمثل الحياة وغموضها، وأفراحها، وأحزانها، إنها مركز الكون رغم تهميشها المتعمد. ■ الكتاب يتضمن روايتين قصيرتين أخريين بخلاف «جواز سفر»، وهما «أغنية قديمة»، و«زمن سيدى المراكبي». لماذا اخترت تسميتها روايات، وليس قصصًا قصيرة؟ - أنا أتمثل مقولة النفرى، وأعشقها: (إن اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة)، وأفضل الروايات بالنسبة لى هى رواية ماركيز كما أسلفت، ورواية العجوز والبحر، وكل الروايات القصيرة، التى تقول كل شىء، فهى مثل الأسطورة قابلة للتأويل. إن «أغنية قديمة»، و«زمن سيدى المراكبى» روايتان قصيرتان، لأن كلًا منهما تحمل حياة أشخاصها، وليست فكرة بسيطة، أو موقفا، أو مشهدا. الرواية تكمن فى الحياة داخل الرواية، حتى لو كانت لشخص واحد رئيس. ■ على أى أساس تحدد الجنس الأدبى الذى تكتبه، وهل تعتقد فى الكتابة عبر النوعية؟ - تلبسنى فكرة ما، وأسئلة لا أستطيع الإجابة عنها، ويسبقنى القلم، لكتابة أول ورقة من رؤيتى، ثم أنفصل عن العالم، وأكون فى حالة بين اليقظة والنوم، وأظل شهورًا، وسنين، حتى يلتئم جرح سؤالى، بعدما سكبته على الورق، فليس لدىَّ وقت للتفكير النظرى. باختصار، الفكرة تكتبنى، وتخرج كما تشاء. بعدها، أنظر لها بعين الناقد، وأتركها، ثم أعود إليها، حتى أرضى. ■ فى الرواية القصيرة «أغنية قديمة» ملمح أسطورى يتمثل فى حبيب البحر. هل يمكن اعتبار هذا البطل رمزًا، أم خيالًا محضًا؟ - البطل فى كل العصور هو رمز، لا يمكن التخلى عنه، ونحن نصنع من بعض رواياتنا أبطالاً، لكنهم من البسطاء، والناس العادية. إن حبيب البحر كائن حى فى كل إنسان، يمكن أن يكون حبيب البحر صخرة، أو موجة، أو قرطاس ترمس مملح، أو نظرة على الماء، أو على شبكة صنارة صياد. يسكننا البحر، والأسطورة، والبطل، ويحركنا الخيال، ولا مناص من ذلك إن أردت. ■ إطلاق الصفات بدلاً من الأسماء على بعض شخصيات الرواية مثل الرجل الذى عينه عين لص، وأنفه أنف كلب. ما دلالة تلك الطريقة فى الوصف، وأثرها على الحكى؟ - هذه طريقة فريدة لاختصار الكثير من السرد، والوصف، لأن الصفات التى تلتصق بنا هى سماتنا الشخصية، وتوضح رؤيتنا لأنفسنا، وللكون، وللآخرين. ثم تجعلنا فى الحكاية مباشرة، وتكون هذه الصفات موضع تساؤل للقارئ، لماذا هذا الرجل بهذه الصفة، فيعود للرواية مرة أخرى، ولا يستطيع نسيانها. ■ الموالد، والأضرحة، وقصص الأولياء وكراماتهم جزء أصيل فى أعمالك الروائية، كيف توظفها، وما سرّ الشغف بها؟ - لقد عشت هذه التجارب رغمًا عنى، بسبب مرضى. حينما كنتُ صغيرًا، ذهبتْ بى أمى- رحمة الله عليها- إلى مقام سيدى أحمد البدوى بطنطا. وكان الجميع- ومازال- يعتقد بكرامة وقصص الأولياء، لكننى لم يتم شفائى، وعانيتُ مثلما عانى طه حسين، وكانوا يجربون كل الوصفات الشفهية الطبية. بعدها، أدركت نفسى بالسؤال، وشربتُ بعضًا من أفكارهم، بعد أن عايشتُ الطرق الصوفية، ودوّنت الكرامات، والقصص، والخرافات، وهى تخرج منى بسهولة حينما أحتاج إليها.