رقيقة كالفراش، حزينة كالغروب، مرهفة كوتر مشدود. اسمها عايدة الأيوبى، مزيج نادر من الملامح الغربية والروح الشرقية، مهندسة كمبيوتر وفنانة متكاملة تكتب وتلحن وتغنى، من مطربات التسعينيات، فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وعلى أبواب ألفية تلقى بحملها الثقيل وترحل، بدت عايدة الأيوبى وكأنها شجون مُستقطرة من حزن ألف عام، بعدها اختفت تماماً وكأنها حلم جماعى لجيل بأكمله سمعها وهى تغنى لابن بلدها تناشده أن يبقى كشجرة توت رغم الرياح العاتية التى تكنسه خارج الوطن. من أجمل أغانيها هذه الأغنية «إن كنت غالى عليا»، أغنية تحكى حكاية الحب الأول: حب أيام الجامعة، والجميلة يخطب ودها الكثيرون لكن القلب لم يخفق بعد، على كل حال هى فى بداية العشرينات والعمر يبدو لا نهائياً كالبحر ذاته، والمرآة تخبرها كل صباح أنها جميلة كالربيع، وعيون المعجبين تفضح ما يكتمه اللسان، تضحك فى مرح وتقول: معذرة يا أصدقائى.. أحبكم جميعاً ولكن قلبى لم يخفق بعد. حتى تأتى تلك العينان المتوهجتان لشاب أسمر نحيل. لابد أنه تردد ألف مرة قبل أن يصارحها بحبه. لابد أنه كان يملك رصيداً لا نهائياً من الصمت والكبرياء. لكن عينيه تفضحانه، هذه أمور تفهمها النساء بالفطرة. لم يكن يعلم أنها لاحظت عينيه المغرمتين. يدق القلب دقة زائدة. تتساءل لماذا لا يقترب منها أو يحاول الحديث معها مثل باقى الزملاء!. تنتابها الدهشة وتتسع مساحة التفكير فيه، ويكون ذلك شرارة الحب الأول. ويلاحظ الأصدقاء أنها شاردة قليلاً. وتلاحظ أمها أنها عازفة عن الطعام قليلاً. لم يخمن أحد أن الجميلة على وشك أن تمنح قلبها البكر لعينين واسعتين تقطران كل صفاء العالم. ثم تأتى اللحظة التى لا بد منها. التعارف والكلمات الأولى. من منهما بدأ الحديث؟. كلمات الأغنية لا تفصح عن ذلك. ربما تقابلا مصادفة فتجمد كل منهما فى موضعه. لكنّ تاريخا طويلاً من النظرات المغموسة بالحب تتوج الحب. يتصافحان وحينما تتلامس اليدان توقن أنها امرأة عاشقة. وإلا فما تفسير ذلك التيار الصاعق الذى لا تستطيع كل قوانين الفيزياء الصارمة أن تفسره؟. تمضى الجميلة متعثرة فى ذهولها، وقد عرفت أخيراً ذلك الشىء السحرى الذى يسمونه الحب. أيام الحب الأول من منا لم يعرفها؟. حينما تتجمل الحياة حتى يذهلك جمال الكون. منذ متى كانت السماء بهذه الزرقة؟ والسحب بهذه الرقة؟. كيف تحول الهواء الذى نستنشقه إلى تنهدات ياسمين؟. ولماذا نسهر الليل بطوله ثم نستيقظ موفورى النشاط!. تلك الأيام التى يتحول الذهاب للكلية إلى حفل ساهر فى دار الأوبرا وتتحول الجامعة إلى ساحة حب. دعابات الأصدقاء متى كانت بهذا الظرف؟، وهذه الزهور التى تتوج الطريق من الجانبين لماذا لم تلاحظها من قبل؟، دعابات صديقاتها حينما يقترب الحبيب فتهرع إليه ضاحكة ومرتبكة، عاشقة وسعيدة. الكف الرجولى العريض يحتوى بامتياز اليد الناعمة التى توارثتها الجدات، حتى وصلت إليها كوديعة حريرية مباركة. وذلك العالم الخاص الذى يحتويهما معا، وحتى الصمت يصبح له حضوره الكثيف. ولكن - وآه من لكن هذه - متى دامت الدنيا لأحد؟ النهاية جاءت مباغتة. شىء لا يمكن تصديقه أبدا. الحبيب يتجاهلها. لاشك أنها فى المرة الأولى لم تصدق رغم قبضة الألم الخرافية التى اعتصرت القلب الأخضر. قالت لنفسها ربما كان متعباً. أو لديه مشكلة ستعرفها منه بعد قليل. إنها تحبه وتلتمس له الأعذار مقدماً وتقبلها منه قبل أن يلفظ بها. لا ريب أن كلمات تلك الأغنية كتبت فى هذه اللحظة: «إن كنت غالى عليا / وحبك مالى عنيا / لا تيجى فى يوم تقابلنى / تنسى السلام. تنسى التحية / الدنيا فى عنيا ما تحلى يوم وإنت بعيد/ والدنيا حلاوتها كلمة واحدة تطمنى». الأيام لا ترفق بالعاشقة، وحبيبها القاسى، كأنه مخلوق آخر يتظاهر أنه هو يحمل نفس ملامحه ويرتدى ذات ملابسه لكنه ليس هو، تسرب الحنان من عينيه اللتين صارتا فجأة قاسيتين باردتين. تبدأ الجميلة فى الذبول. يتهامس الجميع: ماذا حدث؟. وحدها تعرف أن نضارتها ذهبت حين ذهبت نظرة الود من عينيه. ولكن ما الذى غيره؟. هكذا راحت تسأل نفسها آلاف المرات وتسترجع كل الذكريات دون إجابة شافية. هل أحب امرأة أخرى؟ (ويا لها من فكرة مروعة!)، ولكنه احتمال قائم يجب أن تقبله بشجاعة. صحيح أنه يُدمى قلبها . صحيح أنه نهاية غادرة لحب توهمت أن يدوم العمر كله. لقد حافظت على قلبها – من أجله - وديعة ثمينة حتى قبل أن تعرفه!. ولكن أن تعرف منه خير من أن تعرف من سواه، وبالتأكيد أرحم من هذه الحيرة القاتلة. «إن كان للحبيب حبيب تانى/ انشغل قلبه بحبيب غيرى/ نسى كلامه الأولانى/ كان أهون عليا لو كان قال لى». هكذا راحت تفكر.. ولكن آه من الأمل المراوغ. لم يزل يراودها الأمل أنه يفعل ذلك كنوع من التضحية النبيلة. حينما سألته لماذا تجنبها طويلا قال لها إنه إنسان بسيط من عائلة بسيطة. قال: طريقى طويل. وقالت: أريد أن أقطعه معك. قال: الطيور ترحل عن سمائى. وقالت: والسماء لا تخلو أيضاً من الطيور. قال: لا أملك إلا قميصى وأحلامى. وقالت إن أحلامها أن يرسما معاً خريطة جديدة للحب يهتدى بها – من بعدهما - العاشقون. تنهمر دموعها للذكرى. لابد أنه هجرها من أجل ما يتوهم أنه مصلحتها. راح قلبها يخفق بالأمل وينقش هذه الكلمات: «إن كان الحبيب خايف عليا/ ضحى بحبه فى ساعة غالية/ لا يعرف أنه بالتضحية/ يغلى حبيبى، يغلى فى عنيا». وتنتهى الأغنية دون أن تخبرنا بنهاية القصة. قصة الحب الأول والفرح الأول والجرح الأول. لكنى أستطيع تخمينها بسهولة. حكاية أيامنا كلها وهذه الأيام العذبة التى نظن فيها أننا امتلكنا العالم قبل أن تدهمنا الحقيقة. خالص عزائى للأحلام البسيطة! جاءت عايدة الأيوبى وذهبت دون أن تعطى إيحاء بالاحتراف. مثل فتاة صغيرة تجرب وتكتشف. فى شهر رمضان وجدت نفسها غير قادرة على الخروج بزينتها. وضعت الحجاب احتراماً للشهر الكريم وفى نيتها أن تنزعه بعد انتهائه. انتهى رمضان لكن قلبها لم يطاوعها أن تخلعه، تسرب رمضان إلى كل الشهور. لم يكن قراراً سهلاً ولكنها نفذته. انسحبت تماماً من الأضواء الساطعة لتعيد اكتشاف نفسها من جديد. غنت حين أرادت أن تتخفف من شحنة وجد هائلة، وصمتت حين ارتادت روحها آفاقاً أرحب. لكل هذا أحببناها حين غنت واحترمناها حينما صمتت. تحية لذكرى الفنانة المرهفة عايدة الأيوبى.