اقترب منى وهو يسأل إن كنت أعرف الإنجليزية. ظننته صحفيا أجنبيا، لكنه لا يحمل كاميرا ولا جهاز تسجيل، وكان وجهه مألوفا. قال إن اسمه صمويل بيكيت، فانفتح فمى عن آخره. «بيكيت» الأيرلندى- أحد رواد مسرح العبث- ألم تمت عام 1989؟ نظر إلىّ كما لو كنت معتوهة وهو يقول: «هل ستساعديننى على فهم ما يحدث أم أبحث عن شخص آخر؟». ما الذى يفعله «بيكيت» فى ميدان التحرير فى جمعة «لا للطوارئ». تأملت وجهه. كان هو «بيكيت» الذى رأيت صورته مرارا ودرّستُ مسرحيته «فى انتظار جودو» لطلبة قسم اللغة الإنجليزية. الشعر نفسه الأبيض المنتصب كفروع شجر السنط، العينان الثاقبتان أنفسهما والنظارة المستديرة. قطع استرسال أفكارى بسؤال: «هل أنتم مجانين؟ تنزلون اليوم لرفض قانون طوارئ قائم منذ عام 1981 ولم يكن قد أعلن أحد إيقاف العمل به؟». قلت إننا فى ثورة تطالب بالحرية ولا يُعقل أبدا أن تزداد القيود و... قاطعنى بعصبية وهو يجلس على رصيف الميدان وسط الجموع المتدفقة وقال: «أحضرى لى كوبا من الشاى. إنكم تثبتون لى أن كل ما كتبناه فى مسرح العبث لا يمكن أن يرقى إلى الجنون الذى أشاهده فى مصر. هاتى الشاى». أحضرت له كوب الشاى وأنا أجلس بجانبه على الرصيف وأسأل عما يضايقه. قال: «الشعب المصرى تحت الأحكام العرفية منذ أسقطتم الرئيس. أُلغيت السلطتان التنفيذية والتشريعية، واحتكرهما المجلس العسكرى معا. أليس هو من يصدر القوانين وينفذ؟ هذا هو الحكم العرفى كما أفهمه! هل تفهمين؟ الأحكام العرفية أشمل وأوسع وأكثر خطورة واستثنائية من أى قانون طوارئ. ألم يقدم المجلس الحاكم 12 ألف مصرى للمحاكم العسكرية؟ ألم ينفرد باستصدار قوانين لا توافقون عليها؟ ألم يرفض انتخاب القيادات الجامعية؟ ألم يتقاعس ويؤجل فى وعود تخص الأجور؟ ولكن كل هذه الأفعال طبيعية مع الأحكام العرفية. ثم أراكم تتظاهرون بحرقة ضد الطوارئ. أنتم كمن أحرق اللصوص بيته بالكامل فأخذ يتعارك معهم على كسر السور أثناء الخروج! أليس هذا الوضع أكثر عبثية من أى عبث كتبته أنا أو يونسكو أو بيراندللو؟! أنتم...». قاطعته: «يعنى نتركهم يمدون العمل بالطوارئ؟». نظر إلىّ وعيناه الحادتان تبرقان بومضة جنون: «يا سيدتى، المسألة ليست قانون طوارئ يحكمكم منذ عقود فى مصر وسوريا واليمن وغيرها، ففى عدم وجود طوارئ ارتكب حكامكم البشاعات دون الحاجة لقوانين استثنائية. ألم يعتقل عبدالناصر الخصوم السياسيين دون طوارئ؟ ألم يرم البوليس السياسى للنظام الملكى بمعارضيه فى السجون؟ ألم يوجه السادات لصحفيين ومفكرين تُهماً بقلب نظام الحكم؟ هل يحتاج بشار الأسد اليوم إلى إلى قانون طوارئ كى يقتل شعبه؟ هل قتلكم مبارك لأنه كان يحكم بالطوارئ؟ لدى هؤلاء ترسانة هائلة من القوانين الخاصة بالأمن، تتيح لهم محوكم من الوجود دون طوارئ. لماذا لا تتظاهرون من أجل جدول زمنى لإنهاء الأحكام العرفية، وقوانين عادلة تؤسس للديمقراطية التى قمتم بثورة من أجلها؟ إنه البيت، سيدتى، وليس السور!». تركنى دون سلام ومشى وهو يهذى: «البيت وليس السور». سألته «إلى أين يا بيكيت؟». قال إنه فى طريقه للبحث عن وسيلة عبثية للانتحار.