«فى انتظار جودو».. و«الكراسى» مسرحيتان شهيرتان ل«صموئيل بيكيت» و«يوجين يونيسكو» تنتميان إلى مسرح العبث.. ذلك المسرح الذى لا يرى فى الوجود طائلاً يرجى، فالفناء والعدم هما المصير الحتمى لكون خال من الجدوى والمعنى والقيمة والهدف.. والإنسان كائن عابر يعانى من الحيرة والعجز والوحدة.. وعدم القدرة على التواصل أو التكيف مع الآخر.. وثمة يد عمياء تعبث بالأحياء وتطيب لها تعاستهم.. أى أن الإنسان ليس سوى مخلوق عاجز عن فعل الحب والإيمان والتفكير والتفاعل والتأثير.. خلق ليموت.. «وباطل الأباطيل، الكل باطل وقبض الريح، ولا جديد تحت الشمس» والضجر الوجودى والإحساس الطاغى بالغربة والحياة فى إطار من العزلة والجمود هى صفات أصيلة لصيقة بالإنسان حيث رتابة العالم وتكرارية الوجود والمعانى.. والقيم الجاهزة.. والزمن يعدو ويتكرر ولا ينبثق منه جديد يرتقب أو يبدل من يقين الأشياء وجوهرها. وفى مسرحية «فى انتظار جودو» يفتح الستار عن شخصين بائسين فى حالة ترقب وانتظار لبطل «افتراضى» أو «احتمالى» يودعانه أحلامهما.. ويتوقان إلى أن يكون فى وجوده خلاص لهما من معاناتهما الإنسانية.. أو إنفاذ لروحهما من ذلك المأزق الوجودى الذى انزلقا إليه.. و«جودو» الذى حتماً سوف يأتى قيل إن «بيكيت» قد استوحى اسمه حينما التقى تجمعاً من الناس يقفون مترقبين على أحد المفترقات فى سباق الدراجات المشهور فى «فرنسا» وقد سأل بعضهم: ماذا تنتظرون؟!.. وكان معظم المتسابقين قد عبروا فأجابوا: إننا ننتظر « جودو».. وكان «جودو» هذا من المتسابقين المتخلفين نظراً لتقدم عمره.. لكن «بيكيت» ينفى ذلك تماماً.. بل ينفى أى معنى أو رمز يقصده ويؤكد: لو عرفت من هو «جودو» لكنت أعلنت ذلك.. وبالتالى فإن المتلقى المثقف لابد أن يصل به ذكاؤه إلى أن «جودو» هو اسم يدل على «اللاشىء». إن الشخصين البائسين «فلاديمير» و«أستراغوان» ينتظران «جودو» دون أن يتأكدا من زمان ومكان الموعد.. وكل ما لديهما بهذا الشأن مجرد تلميحات وتكهنات. «ماذا تريد أن تقول؟!.. هل أخطأنا المكان؟! - لم يقل قولا حاسما بأنه سوف يأتى - وإذا لم يأت؟!.. نرجع غدا؟!.. وإذا لم يأت غدا؟!.. نرجع بعد غد؟!» بل إنهما لايذكران ما وعدهما به «جودو» وما طلبا منه.. هل وعدهما بالتغيير؟!.. بالحرية والعدالة والديمقراطية والإصلاح.. هل طلبا منه غدا أفضل.. حياة أجمل؟!.. مستقبلا مشرقا؟!.. أوبرا وتماثيل رخام على الترعة؟!.. هل وعدهما وعدا محققا أم أنه سوف وماطل فى الأمر؟! (ماذا طلبنا منه؟! - ألم تكن هناك؟! - لم أعر ذلك اهتماما - لم يقل شيئا محددا أو دقيقا - قال أنه سوف يرى - لا يستطيع أن يعد بشىء - وأن عليه أن يفكر بروية وهو خالى البال صافى الذهن - إنه يريد أن يستشير عائلته - مريديه وأنصاره وأتباعه - إنه محنك معاصر لا يحزم أمره فى التو بل يطلب فسحة من الوقت والتفكير والاستشارة). ثم إنه لن يتورط فى قيادة السفينة الآن.. لابد أن نتغير نحن أولا قبل أن نطالبه بالتغيير.. تعاد تربيتنا من جديد.. فدرر الملهم لا تلقى هكذا على قارعة الطريق للسوقة والرعاع وأبناء السبيل.. لابد أن نؤمن به قبل أن نحبه.. لا أن نحبه ثم نؤمن به.. لابد أن نبذل جهدا خارقا حتى نصبح جديرين بزعامته.. ومن ثم حنوه علينا ورعايته.. لابد أن نتوسل إليه.. نستجديه.. نهرع إليه بالتوقيعات والتوكيلات والتنازلات فى الشهر العقارى وبمواصلة الهتافات والأهازيج.. تلك الهتافات التى تذكرنا بقصة رمزية رائعة للفيلسوف الألمانى «نيتشه» عن مجموعة من المساجين يجتمع بهم أحدهم فى فناء السجن.. ويؤكد لهم فى ثقة وكبرياء أن بإمكانه أن يخلصهم من أغلالهم ببساطة بالغة.. فقط عليهم الاعتراف به باعتباره المخلص ابن الإله وليس مجرد سجين مثلهم فما يلبث أن يكون رد فعلهم السخرية منه.. ويدوسونه بالأقدام وهم يصيحون ضاحكين. وهم فى سبيلهم إلى هدم سور السجن والهروب: مرحى.. مرحى يا ابن الإله.. إن «جودو» الذى طال انتظاره يوفد أخيرا رسولا.. هو صبى متعثر وواجف ليخبرهما أن «جودو» لن يأتى اليوم.. وربما يأتى غدا.. ويبدو «جودو» من خلال الحديث الدائر بينهما وبين الصبى كائنا ساديا يستخدم الصغار ويتعسف بهم، فالصبى ليس سوى بائس يمثل الغباء والحيرة والخوف والعبودية.. أما مسرحية «الكراسى» «ليونيسكو» فإنها تمثل مجموعة كبيرة من الكراسى المتراصة فى مواجهة منصة صغيرة خالية.. ورغم الدعوة لحضور خطاب مهم سوف يلقيه عظيم.. فإن الكراسى تظل فارغة دون وجود فعلى لجمهور المتلقين.. وحينما يبلغ ضجر الانتظار بالكراسى مداه.. يأتى فى اللحظة الأخيرة الخطيب العجوز.. لكنه ما إن يعتلى المنصة ويشرع فى الحديث.. حتى يعجز عن النطق. يحاول مرارا وتكرارا فى عناء ومكابدة وجهد وعذاب والعرق يتفصد من جبينه.. فتخرج الكلمات من فمه أشبه ما تكون بأصوات عجماء.. حشرجات عاجزة متنافرة مخنوقة متفرقة.. فحيح ولهاث وعواء.. أطراف حروف غائمة متكسرة غامضة لا تكتمل.. ثأثأة وفأفأة سجينة لسان مبتور يعكس أزمة اللغة ومحنة التعبير واختفاء المعنى، وعبث الحضور، وحتمية الانصراف.. فلا يجد مفرا من أن يشنق نفسه. وفى عرض معاصر للمسرحية تتغير النهاية بالفرار مرة أخرى إلى المطار.؟