من تصريحات د. عصام شرف مؤخراً، يبدو أن الحكومة مقبلة على تنفيذ مشروعات قومية كبرى، لضخ الدماء فى شرايين الاقتصاد المصرى ومد التنمية التى تغطى الآن 7٪ من مساحة مصر، بحيث تصل إلى نحو 24٪ من أراضيها.. ومن المؤكد أن كثيرين سيحتفون بهذه التصريحات التى تعبر عن عزم الحكومة على تحسين ظروف معيشة الناس، وسيعتبرونها دلالة على أنها بدأت النظر إلى ما وراء أنفها لتستشرف المستقبل. أنا لا أرى ذلك.. أولاً، لأننى لا أعرف ما هذه المشروعات الكبرى.. ثم لأن جدلاً كبيراً يدور الآن فى الصحف حول ثلاثة من هذه المشروعات: مشروع مصر النووى، ثار حوله نقاش واسع مرة أخرى، خاصة بعد انفجار المفاعل النووى فى اليابان وبعد إيقاف البرامج النووية فى بعض الدول.. مشروع الدكتور زويل، يجد البعض أنه نقلة استراتيجية فى مجال التكنولوجيا، فى حين يرى آخرون أنه مشروع غامض الأهداف باهظ التكلفة.. ومشروع الدكتور فاروق الباز لمد ممر للتنمية بطول البلاد يعترض عليه البعض مثل الدكتور ممدوح حمزة ويفضل آخرون إطلاق مشروع بديل بالعرض لا بالطول، ممتد من سيناء حتى سيوة.. وحتى الآن لا يمكننا القول إن أياً من هذه المشروعات القومية الثلاثة الكبرى يلقى ما يمكن اعتباره إجماعاً شعبياً، وهو الإجماع الذى تزداد ضرورته، نظراً للتكلفة الضخمة التى تتطلبها هذه المشروعات، والتى تتطلب تمويلاً بالمليارات من المؤسسات الدولية والدول الأجنبية سوف تقتطع أقساط سداده من قوت أجيال قادمة. حكومة الدكتور شرف ليس من سلطتها اتخاذ مثل هذا القرار لأنها حكومة انتقالية مؤقتة، وقرار جسيم كهذا لابد أن يستدعى تفويضاً لا يملكه إلا البرلمان القادم المنتخب.. الحكومة الحالية هى حكومة تسيير أعمال ليس أكثر، وعمرها الافتراضى لا يزيد على بضعة شهور، وبالتالى فإن واجبها الأول لابد أن يكون مواجهة الأزمات الحالية العاجلة التى لا تحتمل التأجيل. أن تكون الحكومة أكثر طموحاً، فهذا أمر ربما يرى البعض أنه يستحق التحية، لكننى مع ذلك أعتقد أنه يخرج عن السلطات الدستورية للحكومة.. وسواء كان الأمر على هذا النحو أم لا، فالأجدى بالحكومة أولاً أن تكرس جهدها لضبط الشارع المصرى. لا يمكن أن تكون هناك تنمية أو ينشط اقتصاد مع انفلات الأمن على النحو الذى نراه، والذى لا يبرره أننا لانزال نعيش مخاض الثورة. كنت فى الأسبوع الماضى فى تونس.. وبالرغم من تشابه المشكلات والتحديات التى تواجهها الثورتان فإننى بعد عدة أيام من التجوال بين العاصمة وسوسة والمونستير رأيت الأمن يكاد يكون مستتباً فى عموم البلاد، باستثناء بعض مناطق الداخل الصحراوية.. أعلم أن مشكلة الأمن فى البلدين ليست متماثلة تماماً، وأن علاقة الناس بالشرطة هناك لم تتدهور إلى الحد الذى وصلت إليه فى مصر، خاصة بعد قمع الشرطة المصرية الوحشى للمظاهرات فى الأيام الأربعة الأولى للثورة، لكنى أحسست بغصة فى حلقى عندما عدت إلى مطار القاهرة ووجدت اللافتة العتيدة «ادخلوها بسلام آمنين». لا، لسنا آمنين.. عاد الكتاب وزادوا فى أمر غياب الشرطة، وما من برنامج من برامج المساء فى التليفزيون إلا وفيه شكوى من انعدام الأمن، وتروى لنا الصحف كل يوم أحداثاً تثير سحابات من التشاؤم والروايات المقلقة التى يحكيها الناس، لا أول لها ولا آخر.. أعلم أن فى مثل هذه الروايات بعضاً من المبالغة فى العادة، لكن الأمر الذى يجمع عليه المصريون الآن هو أن الأمن هو مشكلة البلاد الأولى، وأنه بالرغم من الظهور النشط لوزير الداخلية ومساعديه فى وسائل الإعلام، فإنهم لم يحققوا نجاحاً مماثلاً فى الظهور فى الشارع، وأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً فى إقناع الناس بأن مناخ الأمن يتحسن.. أظن أننى لا أبالغ إذا قلت إن الشعب لم يعد مقتنعاً بأداء الوزير، وأن هذا الانطباع ينال من الثقة فى الحكومة، بل من الثقة فى الثورة. سمعنا الكثير من الحلول والخطط، ما بين إعادة تدريب رجال الشرطة، وتعديل برامج الدراسة للضباط، وتخريج أفواج على نحو عاجل، ولجان شعبية تعاون الشرطة، وتعيين ضباط علاقات عامة فى كل الأقسام، وتبديل الزى بزى آخر بلون آخر، وزيادة الاعتماد على مجندى القوات المسلحة وضباط الاحتياط فيها، وسيارات دوريات تطوف الشوارع ليل نهار، وعودة شعار «الشرطة فى خدمة الشعب»، ومعالجة نفسية للأفراد، ومحاكمة الفاسدين فى وزارة الداخلية، وإعادة هيكلة الوزارة.. كما أننا بين وقت وآخر نسمع عن ضباط نبلاء تفانوا فى أداء الواجب مثل الضابط الذى أنقذ مراسلة تليفزيون «سى.تى.فى» من أيدى البلطجية فى ميدان التحرير، وغيره من الأبطال الذين استشهد منهم سبعة، وأصيب 92 فى مواجهات مع الخارجين على القانون فى الأسابيع الستة الأخيرة.. لكننا لانزال نسمع عن بلطجية يقتحمون قاعات المحاكم ويهددون القضاة (المحلة الكبرى مثالاً)، وانتشار الأسلحة المتوسطة والقنابل فى الأرياف، حتى إن الرشاشات تباع على الأرصفة «الصف» وحوادث الاعتداء على الحكام واللاعبين فى ملاعب الكرة (جماهير الاتحاد السكندرى)، وتعطيل القطارات (القوصية) واعتراض السيارات على الطرق السريعة وسرقتها (الطريق الساحلى عند برج العرب)، وسيطرة الفوضويين والمجرمين على مناطق بكاملها (بولاق الدكرور)، ومحاولات السجناء الهروب من الأقسام (طنطا) والاعتداء على المستشفيات (عين شمس الجامعى) وعلى أقسام الشرطة (الأزبكية). لم يعد الأمر يحتمل السكوت.. ويزيد من تعقيد المشهد اعتصامات تقطع الكهرباء، وبلطجة تعطل المواصلات، ووقفات احتجاج تغلق الطرق.. هذه فوضى.. هى شىء مختلف عن حق المواطنين المؤكد فى التعبير عن الرأى.. وإذا كنا نطالب حكومة الدكتور شرف بأن تضع جدولاً زمنياً لتلبية مطالب الشعب العادلة، ونطلب من وسائل الإعلام أن تقوم بدور مسؤول فى توعية المواطنين بالظروف الدقيقة التى تمر بها البلاد والتى لا تمكنها من إزالة ظلم دام 30 سنة فى 3 أشهر، ونطلب من الشعب بعضاً من الصبر.. فإننا ننتظر الآن وليس غداً الحسم فى إعادة الأمن، والحسم فى تنفيذ القوانين القائمة والمقترحة لمواجهة الفوضى دون حظر على الحريات. يجب على الحكومة أن تضع حداً لتدليل الناس، وأن تضع حداً لتدليل الشرطة.. فإذا ما تحقق الأمان ننظر عندئذ فى المشروعات القومية الكبرى.