عثرتُ فى مكتبة جدى على كتاب قديم مصفر الأوراق بلا غلاف أو عنوان، وفيه قرأت حكاية عجيبة. تقول الحكاية إن «حلم» كانت فتاة باهرة الجمال، لها عينان تختلف إحداهما عن الأخرى، فالعين الأولى كانت لولد جميل قتلته الخفافيش السوداء، بعد أن فقأت عينيه فكان أن آلت إحدى العينين إلى «حلم». أما العين الأخرى فهى لولد آخر لا يزال حيا، لكن لا أحد يعرف اسمه ولا حكايته، فهو جالس على الشاطئ فى انتظار أن تمر الحياة عليه فى مركب شراعى، تشده من يده إليها. ظلت «حلم» نائمة ما يناهز الأربعين شتاء، كان الناس أثناءها يلهثون وراء رغيف خبز لم تلوثه ديدان الأرض أو تقرقض حوافه. لكن بعضهم حاولوا إيقاظ «حلم» لسنوات طوال، مرة يخزها أحدهم بأقلام الرصاص، ومرة يهمسون فى أذنها بأغانى الحب القديمة، يحدوهم الأمل أن الأغنية تعويذة ستوقظ الجميلة النائمة. كانت «حلم» تحرك يدا أحيانا أو تتقلب فى نومتها فيظنونها أفاقت. لكنها ظلت نائمة. وفى أحد أيام شتاء غريب أفاقت «حلم» فجأة. فتحت عينيها مستغربة. كانت هزيلة شاحبة من السبات الطويل، وكان صوتها ضعيفا خافتا. أفاقت على أصوات هادرة تجأر فى شوارع وميادين وحارات البلدة. ظلت الأصوات تقترب منها، لكنها أيضا سمعت صوت الهراوات، ونعيق البوم وطلقات الرصاص التى استقرت فى صدور بنين وبنات كانوا فى منتصف الغناء. جرت دماؤهم ساخنة فوق أسفلت الشوارع، كأنها تعرف مسارها وتجمعت حول «حلم» الواقفة وسط الدخان. اندفعت أنهار الدم نحو المصب: شرايين «حلم» الواهنة. استفاقت الخفافيش على جسد امرأة، يبرز من بين الحشود الهادرة. أخذ الجسد يكبر ويستطيل. طارت الخفافيش ناحيتها تحاول فقء عينيها الجميلتين اللتين لا يشبهان بعضهما البعض، لكن «حلم» كانت تحرك يدا فتسقط بها ألف خفاش، أما اليد الأخرى فقد كانت ثابتة ممتدة إلى الأمام نحو نخلة بعيدة تتدلى منها سباطات البلح الأحمر كالثريات المتوهجة. وكان أن تجمع ناس كثيرون من حيث لا يدرى أحد، خرجوا من الشقوق والبيوت ومن تحت مجرى النهر وجذوع الأشجار. كلما اقترب من «حلم» فوج من الناس فوجئ الجميع بأنهم قد انصهروا فى جسدها الذى ظل يكبر ويستطيل حتى أصبح عملاقا. عندما خلت ساحات البلدة من الخفافيش بدأت «حلم» فى الرقص والغناء. كانت تغنى لهؤلاء الذين أعادوها للحياة ولكل الآتين فى الطريق من البلدان البعيدة، بعد أن سمعوا حكايتها. وظل الناس يرقصون معها ويغنون أياما وأياماً. وكانت المآذن وأجراس الكنائس والمعابد أيضا تغنى. وكذلك مياه النهر القديم وقلوب الأمهات. ذهبت كل الخفافيش، أو هكذا ظنت «حلم» وأصحابها. فقرروا التحرك نحو النخلة ذات البلح الأحمر المشتهى. وفجأة انشقت الأرض عن ثعابين وأفاعٍ وغيلان وتنانين تنفث نارا. وفى الظلام كانت حربا ضروساً، تفرق أصحاب «حلم» عن بعضهم البعض ومن حولها، وكان أن أصابتها سهام ولسعات عقارب. لم أعرف نهاية حكاية «حلم»، لأننى اكتشفت أن النصف الثانى من الكتاب لم يكن موجودا. أخبرنى أخى أنه قد رآه فى مكتبة جدنا منذ أيام. مازلت أبحث عن نهاية الحكاية. لكن آخر صفحات الكتاب القديم كان يحكى عن «حلم» وهى تزحف ببطء نحو النخلة القريبة. وكان الناس يحاولون اختراق الزحام وتفادى الأفاعى مقتربين منها. وكانت لا تزال تغنى.