حطت بى الطائرة فى مطار القاهرة بعد يوم طويل ومرهق من السفر، عند خروجى استقبلنى أحد مندوبى شركات الليموزين عارضاً توصيلى إلى البيت بأجر كبير، عندما أبديت اندهاشى قال إن السيارة موديل 2011، قلت إننى أريد توصيلة للبيت وليس شراء سيارة آخر موديل. جاءنى العرض الثانى من سائق تبدو على ملامحه السماحة والتهذيب، ولأنه كان أقل بحوالى 20% من العرض الأول فقد قبلت فوراً. قبل أن يتحرك التاكسى من موقعه لاحظت حواراً مشفراً بين أمين الشرطة المرابض فى الموقف والسائق، سألت السائق: «هل لايزالون يتقاضون إتاوات؟»، أجّل الرد حتى خرجت السيارة من حدود المطار، ثم سألنى: «ألم نقم بالثورة ضد الفساد؟»، قلت: «طبعاً»، أردف: «إن شيئاً لم يتغير سيدتى، إن الفساد كما هو حى يرزق، لانزال ندفع لأمناء الشرطة فى المطار والسايس وشرطة السياحة، وبحسبة بسيطة أستطيع أن أخبرك بأن هذه الرشاوى تقتسم معى رزق السيارة التى أقودها من أجل لقمة حلال». قلت له إن الثورة لن تحقق أهدافها إلا لو وقف كل منا ضد النظام القديم بآلياته المعروفة من فساد وابتزاز ورشاوى، لكنه قاطعنى مفسراً أنه لو رفض دفع الإتاوة فأكل عيشه مهدد بالثلاثة. كان الموقف قد استفزنى وأنسانى إرهاق السفر وأعادنى فى لحظة إلى قلب مصر الثورة بعد غياب أيام قليلة. وعندما سألتُ السائق أن يشرح لى، قال إن مقاومة كل منا للفساد والرشوة أمر يعد رفاهية لمن هو مثله واقع تحت سلطة صغار المرتشين. وتساءل متعجباً إن كان مدير مطار القاهرة على علم بأن شيئاً لم يتغير فى منظومة الفساد القديم! وإن كان لا يعلم فلماذا لا يُرسل مندوبين له يتجولون فى المطار ليتأكدوا من أن لا أحد من الصغار يمارس الابتزاز؟ لماذا لا يطلب من السائقين إبلاغه بأى واقعة رشوة؟ ولماذا يظل الحال كما كان رغم تحسين أجور أمناء الشرطة وتخصيص مستشفى عسكرى لهم. وأعرب عن يقينه أنه حتى لو زادت أجور الأمناء إلى 5 آلاف جنيه فسيظلون على ابتزازهم للناس إلا لو تمت معاقبة المرتشين بحزم. تساءل السائق فى مرارة: «لماذا لا يعاملوننا كإخوة لهم؟». فى نفس يوم الحوار مع السائق كان أحد رفقاء التحرير يسألنى: «ألم نقم بالثورة ضد الفساد؟ هل الفساد هو هذا العدد من المسؤولين المحبوسين فى طرة على ذمة التحقيقات؟ أليس الأمر أكبر من ذلك بكثير؟»، نعم الأمر بالتأكيد يتعدى محاسبة رؤوس الفساد الكبيرة (الواجب محاسبتهم قضائياً عن جرائمهم السياسية قبل المالية) ويمتد إلى إعادة تشكيل المنظومة الإدارية التى تحكمنا وتغذيتها بقيم الشرف والنزاهة واحترام حقوق الإنسان، وفى إطار ترسيخ هيبة المؤسسات. على كل مسؤول كبير أن يجتمع مع ممثلى المجموعات التى يترأسها، يستمع إلى شكاواهم ويتعهد أمامهم بحلول معلنة، ويفتح صندوقاً للشكاوى يُمكِّنه من تتبع حالات الفساد والتحقيق فيها. إن سائق تاكسى المطار بحاجة إلى أن يعرف أن بإمكانه - كأحد البسطاء كما عرَّف نفسه - أن يشارك فى صنع حاضر يليق بالثورة. إنه كما قال لى لا يطلب شقة ولا سيارة فخمة. «أنا عايز أشتغل»، هل هذا بكثير عليه وعلى ملايين المصريين المسلط على رقابهم سيف فساد الصغار!