في بداية شهر مارس استقليت الحافلة من مدينة الأسكندرية متجها الي مدينة مرسي مطروح و التي تبعد عن الأسكندرية بحوالي 325 كيلو متراٌ بالجهة الغربية. و كان هناك شاباٌ في العشرينات من عمره يجلس علي المقعد المجاور لي و لقد لاحظت نظراته الفضولية لي منذ ان تحركت الحافلة من الأسكندرية الي أن وجد أول فرصة للحديث معي عندما بادرني بسؤالاٌ عن طبيعة عملي! و لسبباٌ ما اعتقد هذا الشاب أنني محامياٌ أو دارساٌ للقانون أو عاملاٌ به!!! فاجابته نافياٌ و متعجباٌ من سبب سؤاله ، فأنا لم أشعر ابداٌ في حياتي بانني اشبه او تبدو عليِ ملامح المحاميين و هيئة دارسي القانون و لكن سرعاناٌ ما بدأ الشاب في قص قصته الطويلة عليٍ والتي سأحاول اختصرها هنا : فهذا الشاب ولد لعائلة فقيرة تقيم في قرية صغيرة تابعة لمحافظة كفر الشيخ في الدلتا المصرية، و كان قد بلغ من العمر السادسة و العشرون و قد أنهي دراسته واصبح عاطل عن العمل، لا أمل له في وظيفة و لا فرصة تجعله يحيأ حياة كريمة مثله هذا مثل اغلب شباب هذه القرية و كثيراً من قري مصر الذين اصابهم اليأئس بسبب البطالة. و ذكر لي الشاب كيف زنه لم يتوقف يوماً عن البحث عن عمل و قبول أي عمل صغير مؤقت من الأعمال الشاقة مثل اعمال البناء و المقاولات، بالرغم من العيوب الكثير التي تتميز بها هذه النوعية من الأعمال. فكثيراً ما تكون هذه الأعمال في مناطق و مدن بعيد عن قريته و أهله و كثيراً ما يقوم المقاول او صاحب العمل بالنصب عليه و علي أمثاله من العامليين ،كما أن الضمانات الصحية و القانونية للعامليين في هذه الأعمال معدومة و من ثم لا يضمن العامل حصوله علي اي حق في حالة حدوث حادثاً له لا قدر الله. حتي جاء ذلك اليوم الذي سمع فيه من صديقاً له في القرية أن هناك رجلاً يسكن في القرية و يعمل في وظيفة محترمة بإحدي الوزارات في القاهرة يستطيع ان يساعده في الحصول علي وظيفة في القاهرة نظير مبلغاً من المال. و لم يكذب صاحبناً خبراً، فاسرع يسعي الي الرجل فوجد المئات من الشباب اليأئس يسعون مثله لمقابلة الرجل و الذي طلب من كل شاب مبلغ 5000 الآلاف جنيهاً مقابل الوظيفة. و دفع صاحبنا المبلغ مثله مثل غيره من الشباب، و انتظر فترة الشهرين التي طلب الرجل منه ان ينتظرها حتي يتسلم وظيفته. و لكن الشهرين اصبحا ثلاثة اشهر ، ثم اربع اشهر و لم يحدث شيئاً، حتي تأكد له و للآخريين ان الرجل ذو الوظيفة المحترمة باحدي الوزارات ما هو الا نصاب آثيم، قد نصب عليهم و اغتصب منهم مالهم و الذي أقسم لي الشاب ان أمه قد باعت مصاغها حتي تكمل له مبلغ الوظيفة. و بعد أن يأئس الشاب مثل غيره و تأكد من ان حقه قد ضاع عليه فلا هناك سند قانوني و لا وثيقة تثبت حقه ، و بعد أن علم أن القانون لا يحمي امثاله من المغفليين، لجأ الي محاميا اشترط عليه و علي باقي الشباب ان يدفع كلاً منهم مبلغ الف جنيها مقدماً حتي يتمكن من البدء في عمل اجراءات قانونية لأعادة حقهم المغتصب، و زعم المحامي ان هناك كثيراً من الثغرات في القانون التي يستطيع ان يستعملها ضد الرجل الغاصب النصاب، و طبعاً لم يشرح لهم هذه الثغرات لانهم يجهلون القانون و لغته، فما عليهم الا الدفع و الاعتماد علي المحامي الذكي العالم بالقانون و ثغراته. و لان اهل هذا الشاب كانوا من الفقراء فقد كانت الاستدانة طريقهم الوحيد لدفع مبلغ الألف جنيهاً التي طلبها المحامي عله يتمكن من أعادة حق ابنهم المغتصب!! كانت هذه قصة الشاب بأختصر و لأنه قد حِكي لي القصة بالتفصيل الممل ، فقد طلب مني في النهفي النهاية أن أنصحه بعمله و ذلك لأعتقاده و إيمانه بأن مظهري يوحي بفهماً عميقاً للقانون. (!!!!!!!) في الحقيقة أنني لم اعرف ماذا اقول لهذا الشاب المسكين فصمت قليلا ثم قلت له : أرجو الا تغضب مما سأقوله لك ولا مما سأصفك به ، فبالرغم من تفاهمي لمشكلتك و تفاهمي لظروفك و التي دفعت بك الي طريق هذا النصاب و تفاهمي ايضا للالآم و الضرر التي أصاب اهلك منها الكثير بسبب هذا النصاب، الا انني اعتقد انك تعاني من ادمان الوقوع كضحية للنصب و النصابين. فانت اعتقدت انني محامياٌ بلا سبب ، و قصصت علي قصتك بلا سبب ، و صدقت رجلاٌ قال لك انه سيعينك في وظيفة حكومية بلا مقابلة شخصية و لا اختبارات و لا حتي بإدني نوعية من المعرفة بطبيعة الوظيفة التي زعم النصاب انه سيمنحك إياها ، ثم بعد ان تأكدت ان نصب عليك و علي باقي الشباب الاخر ، و تأكدت ان حقك قد ضاع و لا يستطيع حتي القانون ان ياتيك به “فالقانون لا يحمي المغفليين” بعد كل هذا تذهب الي محامياٌ يدعي انه سوف ياتيك بحقك و مالك الضائع بعد دفع مبلغ الف جنيهاٌ كمقدم للبدء في الاجراءات!!! يالك من مسكين! اذا دفعت انت هذا المبلغ ثم دفع باقي الشباب الذي معك (و كان قد اخبرني ان عدد هؤلاء الشباب الذين تم النصب عليهم يبلغ حوالي 500 شابا) هذه الالف من الجنيهات فان مجموع ما دفعتموه هو نصف مليون من الجنيهات!!!....أنها عملية نصب اخري، أليس هذا واضحا لك؟؟؟ رد الشاب عليٍ بلا بسرعة و بلا تفكير: أنت تتفهم ظروفي و مشكلتي و لكني اعيش فيهما، لقد تعبت من البطالة و العمل المؤقت و لم يكن امامي سوي الاسراع لانتزاع هذه الفرصة. انا اعرف ان المبلغ كبيراٌ و ان كثيراٌ من الضرر قد اصاب اهلي ، و لكن لاحظ انني لو كنت حصلت علي هذه الوظيفة لتمكنت من تعويضهم عن ما انفقوه خلال شهر او شهرين؟؟ ادهشني قوله و تأكده من انه لو كان قد حصل علي الوظيفة لاستطاع خلال مدة شهر او شهرين ان يآتي بمبلغ الخمسة الآلاف جنيها التي دفعها اهله كي يحصل علي الوظيفة ، فقلت له و علامات الدهشة تعلو وجهي: كيف تقول ذلك و انت لم تكن تعلم ماهية الوظيفة التي ستحصل عليها(!!!!) و بالتالي لا تعرف كم سيكون راتبك في هذه الوظيفة!!! و حتي لو فرضنا أنك ستحصل علي هذه الوظيفة الحكومية، فان مراتبك علي كل حال لن يتعدي مبلغ المائتين او الثلاثمائة جنيهاً في أحسن تقدير ، فكيف لك ان تقول انك سيمكنك ان تجمع مبلغ الخمسة الآلاف جنيها اذا وجدت ان راتبك عن وظيفتك المزعومة في شهراً أو أثنين؟؟!!! قال: “نعم انا متأكد انني ساجمع هذا المبلغ و اكثر في هذه المدة.” ثم أبتسم أبتسامة بلهاء ثم سألني متهكماٌ : “ الم تذهب الي اي مصلحة حكومية من قبل يا أستاذ؟......الا تعلم ان مجرد السؤال علي شيئا ما يكلفك دس بعض الجنيهات في يد الموظف كي يجيبك؟ الا تعلم ان اقل خدمة تؤدي اليك في مصلحة حكومية لا تقل الاكرامية فيها عن الكف؟” قلت و الدهشة قد ذهبت بلون وجهي كلياٌ : “في الحقيقة انا لا اعرف ما هو الكف الذي تتحدث عنه..!!!” ضحك بطريقة شيطانية و قال : “ الكف هو الخمس جنيهات” ثم اخذ يذكر لي المصلحات التي تستعمل كرمز للمبالغ المالية التي تدفع كرشوة فعرفت منه ان “البريزة” هو الاسم الحركي للعشرة جنيهات و ان “تلاتة شلن” هو اسم الخمسة عشر جنيها، و ان “الريال” هو اسم العشرون جنيها، و”الربع جنيه” هو اسم الخمس و عشرون جنيها ...... و هكذا و هكذا ، فكما صغر ذنب الرشوة في عينه، صغرت ايضا أسماء المبالغ النقدية في حديثه!! ساد الصمت بيننا، هو لا يعرف ماذا يقول ، و انا في ذهول و حيرة من أمره! أن هذا الشاب هو نموذج حي لبذرة فساد ستنمو و تكبر في مجتمعنا!! لو ان كل شخصاٌ يتم تعينه بهذا الشكل او هذه الطريقة -وهذا ما أكتشفت مؤخراٌ انه صار يحدث بشكل عادي جداً و أن ذلك اصبح السمة الأساسية لمجتمعنا- لاصبح المجتمع فاسدا بنسبة مائة في المائة. فمن الطبيعي ان يقوم الشخص الذي دفع مبلغاٌ كبيراٌ لتعينه في وظيفة حكومية بالضغط علي الناس و استغلال وظيفته للتربح الغير مشروع كي يجمع المبلغ الذي دفعه ثمناٌ لهذه الوظيفة!! و لقد اصابني كثيراٌ من الانزعاج عندما سألت نفسي “و ماذا قد يحدث اذا كان دارس الطب سيدفع مبلغاٌ كرشوة كي يحصل علي وظيفة كطبيب في مستشفي حكومياٌ؟؟ ودارس القانون اذا دفع رشوة كي يصبح قاضياٌ؟؟ و دارس الهندسة كي يصبح مهندساً .......الخ الخ.....!!!!! يالهي ، ان هذا ما يحدث حقاٌ!!!! هكذا اصبح المجتمع فاسدا بسبب كل هذه البذورة الفاسدة. و فجأة قطع صمتي و تفكيري و انزعاجي ضحكة عالية صدرت منه ، ثم فؤجئت به يقول لي “الآن اصدقك. إنت فعلا لست محاميا ، و لا تفهم في القانون، لانك لو كنت كذلك لكنت فهمت كيف تخرج و تلعب و تتلآعب بالقانون ثم كيف تختبيء و تراوغ القانون كي تحمي نفسك منه، و لكن جهلك بمصلحات السوق و دهشتك مما اقول ، اثبت لي انك لست محاميا و لست من المقيميين في هذا البلد، لعلك غريباٌ عنا.!!!!!