عبدالوهاب عبدالمحسن نَقَّار الخشب

ذُو منقار مُدبَّب مرِن قوى يضربُ بشدَّة وإيقاع حُرٍّ مُنضبطٍ، مع صوتٍ يُصدرُه من حينٍ إلى آخر، كأنَّه يُهوِّن على نفسه مسألةَ الحفر فى الأجواء السَّاكنة، وربَّما يُذكِّر من حوله من الطيور والكائنات بأنه يعملُ وحده فى صمتٍ، بعيدًا عن الزحام والتقاتل والتغاضن والتشاحن.
يحفرُ ويرسمُ، يبنى لوحةً؛ كى يسكنَها، أو يبحثَ فيها عن مطعمٍ ومأوى، يعجبه أولا ويرضيه، له تقاليدُه وعاداته فى النقر بسرعةٍ مُتواصلةٍ ودأبٍ وإصرارٍ فى ضرَباتٍ مُتعاقبةٍ، حيث يضربُ جِذعَ الشجرةِ مئةَ مرَّة فى الدقيقة الواحدة، بمُعدَّلٍ يصل إلى خمسةٍ وعشرين كيلو مترًا فى السَّاعة، وبسرعةٍ قد يصلُ مُعدَّلها إلى سبعة أمتارٍ فى الثانية الواحدة، أى ما يساوى اثنتى عشرة ألف نقرة فى اليوم، وهو يُفضِّل نقرَ أشجارِ البلوط «السنديان» والصنوبر، يختار إذن ما يتوافق مع مزاجه الشخصى الخاص.
أما شجرة الصنوبر فقد يختارها هدفًا له لأنها تمتاز بمقاومتها الشديدة للجراثيم، وهى شجرة معمرة، وقد تجذبه رائحتها كى ينقر فى خشبها.
نقار الخشب نادرٌ بين الطيور، يعيشُ حوالى عشر سنواتٍ أو أكثر، لا يتعب، وهو مُنْجِزٌ لا يعرف التعب، وقد يحفر بمنقاره يومًا كاملًا أو أيامًا، إنه ذلك الطائر الجميل الهيئة، البهى الشكل، ذُو الألوان الطبيعية التى تدهشُ.
هو رسَّام الخشب، الذى يتركُ وراءه لوحاتٍ نادرةً فى تلقائيتها، من فرط النقر المُتعاقب للبحث عن لُقَى، تُعينُ على الحياة له وللشجرة التى ينقرُها، ولا شكَّ أنَّ فى النقر مُتعة، على الرغم مما يبدو لمن يتابعُ مسيرة الطائر وهو ينقر، مُعتقدًا أنه فى حالات إعياءٍ أو مللٍ من البحث، لكنَّ الطائرَ يثبتُ لنا أن النقرَ فنٌّ فطرىٌّ، ومُتعةٌ خاصةٌ لا تُتاحُ لبقية الطيور، وأنَّ المنقار الذى يعملُ بدأبٍ من «نجَّار الغابة» له فرادةٌ وخُصوصية، وأنَّ كلَّ عملٍ يحفره يختلفُ عن سابقه، وأنه لا يعمل بوتيرةٍ واحدة.
نقَّار الخشب woodpecker لا يرضى بالسَّطح الأملس، ولا بالهامش، إنهُ ينقرُ ليُظْهِرَ المتنَ، الباطنَ، اللُّبَّ؛ كى يصلَ إلى سرِّ الحياة، وسؤال الوجُود له، وللشجرة التى اختارها؛ كى تكونَ له هدفًا ووِجهةً، ولأنه يمتلكُ حدْسًا لا يخطئ، وحسًّا عاليًا، ومعرفةً باطنيةً؛ فإنه يذهبُ إلى مُبتغاه؛ مُدركًا أنه سيجدُ شيئًا، إنه يرى بعينىْ رُوحِه، ويعلمُ ما لا تعلمُه الطيورُ الأخرى، ولديه من المواهب والقُدرات والأدوات البدائية بنت الطبيعة ما ليس عند غيره من الأقران، أو أهل النقر أو الحفر.
يحفرُ ثقوبًا فى جُذُوعِ الأشجار؛ ليملأها بثمار الجُوز مثلا، أو أى ثمارٍ أخرى مُتاحة أمامه، شرط أن تكونَ مُحبَّبة لديه؛ ويُخزِّنها لوقتِ الحاجةِ إليها، فى مشهدٍ فنىّ غريبٍ وجديدٍ، وغير مألوفٍ فى هندستهِ العفوية، وانتظامه غير التقليدى.
نقَّار الخشب هو عندى عبدالوهاب عبدالمحسن (1951 ميلادية)، ذلك الفنان الذى يعيشُ فى كهفه السرِّى فى مدينة كفر الشيخ، ومع ذلك استطاع أن يخلق اسمًا كبيرًا كفنه، وأن يستلهمَ المحيطَ الذى يعيشُه فى تجاربه المُتتالية، ولأنَّ فن الحفر على الخشب لم يعد موجُودًا بشكلٍ كبيرٍ فى الساحة التشكيلية المصرية والعربية؛ فإنَّ عبدالوهاب عبدالمحسن ما زال يقدِّم فيه كشُوفًا مدهشة وجديدة، لا تكرار فيها ولا مُعاودة.
ahmad_shahawy@hotmail.com