قبل خمسة أشهر من الآن.. كنا على يقين بأن مصر قد كفرت بدمائنا المهدرة على أرضها، ولم يكن بمقدورنا سوى الإلحاد بتربها، فتوحش الفساد بها وبحث الظلم فيها عن الخلود.. ولكن؛ فجأة ثار الشعب المصري!!، ليعيد صياغة التاريخ من جديد.. كما عودنا دائمًا، ثار ليبعث مصطلحًا مُطثًا منذ عقود.. وهو الوطنية، خرج المارد من قمقم الإستكانة والضعف، ليتقزم مِن حوله كل مَن ظن نفسه قد تأله على عرش مصر أو رُفع على أعناق أبناءها..!. واليوم يكون قد مرت 100 ليلة على التنحي، ذاك الحلم الذي التف حوله المصريين جميعًا، بكل طوائفهم ومرجعياتهم.. كان المتوقع المستحيل، ولكننا جعلناه المستحيل الواقع بإرادة شعب مؤمن بحقه في الحياة والحرية!... وإن أردنا أن نصنف ثورتنا، لن نجد لها تصنيفًا يلائمها بشكل كامل، فهي الحزينة الضاحكة، السلمية الدامية، المتوقعة المستحيلة والمرتبة العفوية!!!، إذاً فهي الثورة الطريفة بين ثورات التاريخ أجمع، ولم تكن طرافتها بتصنيفها فقط، بل أيضًا بكم ما حققته من مفارقات قدرية تستحق الوقف عندها!، ولكن نصيحة؛ لا تكلف نفسك عناء فهم مغزاها، فكلها جاءت وكأنها رسائل أو هدايا من القدر لأناس بعينهم! - فإن بدأنا المفارقات بيوم 25 يناير، يوم عيد الشرطة المصرية.. تلك التي كانت أحد أهم أسباب الثورة، فمعاملة بعض -أو غالبية- عناصر الأمن للشعب المصري جعلته يكره الداخلية ككل، فتأتي الثورة في نفس اليوم، لتمحي من تاريخ مصر شيئاً ما يدعى عيد الشرطة، وتكسر شوكة الأمن لحين اشعار آخر!.. فحتى إن لم يُلغى الاحتفال من قبل المسئولين؛ لن يكون له وجود بين احتفالات الثورة المصرية!. - يوم 27 يناير، هذا اليوم يوافق عيد ميلاد خالد سعيد شهيد الطوارئ، الذي كان شرارة مبكرة للثورة عندما قُتل من قبل بعض أفراد أمن الأسكندرية بيوم 6 يونيه 2010م، فعلّم الشباب المصري معنى الوقفات الإحتجاجية السلمية الصامتة، بعد أن قام أحد المصريين بعمل صفحة خاصة له على الفيسبوك، وظل أدمن تلك الصفحة مجهولاً للجميع، حتى يأتي يوم 27 يناير 2011م.. حيث تم القبض على وائل غنيم؛ فعندها فقط يعرف الجميع من هو منشئ صفحة كلنا خالد سعيد، في يوم عيد ميلاده!. - قامت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على يد رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف، بعد توليه منصب وزيراً للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات خلال الفترة من 1999م إلى 2004م، ووضع إطاراً قانونيًا جديداً من أجل تحرير قطاع الاتصالات، وقام بالترويج له في مختلف المجالات، لتأتي نهاية أحمد نظيف على يد الفيسبوك، وتكنولوجيا الاتصالات!!. - ظل الرئيس المخلوع مبارك رافضًا وضع نائبًا لرئيس الجمهورية، وكأنه يتشائم من تلك الخطوة، فبعد فترة قصيرة من توليه ذاك المنصب، تم اغتيال الرئيس السابق محمد أنور السادات، ولكنه أقدم على فعلها مجبرأ لتهدئة الثوار أو هكذا كان يظن، ليُخلع بعدها بأقل من أسبوعين!!. - 2 فبراير ذاك اليوم الذي غرق به ميدان التحرير بدماء الشرفاء، في معركة الجمل التي تشبه معارك وحروب العصور الوسطى، وكانت حصيلتها 11 قيتلا من المتظاهرين وأكثر من 2000 جريح على الأقل على يد بلطجية النظام، الذي لم يعبئ بأرواح شعبه وحياتهم في مقابل بقاءه على كرسي الحكم!، يوافق هذا يوم غرق العبارة سلام 98، التي راح ضحيتها 1310 مصرياً.. وكانت أيضًا صورة واضحة وجالية من صور عدم مبالاة النظام بحياة أبناء وطنه!!. - 11 فبراير.. يوم التنحي وإسقاط رأس النظام، كان له نصيب الأسد من المفارقات القدرية الغريبة، ففي نفس اليوم كان عزاء الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري خلال حرب أكتوبر 73، والذي تم إقصاءه من كل التكريمات بشكل مجحف لحقه، وكأنه أبى أن يُدفن قبل أن يرى نهاية نظام مبارك تلوح بالأفق...! وأيضًا وافق 11 فبراير يوم إسقاط شاه إيران الذي اتسم عصره بالفساد والطغيان حتى أن السافاك -جهاز الأمن الإيراني وقتها- لم يختلف عن جهاز أمن مبارك بمصر، قام بالثورة الإيرانية بعضًا من الليبرالين والعلمانين أملاً بأن تكون إيران ملكية دستورية ,واسقطوا الشاه عام 1979م، لتصبح فيما بعد أقوى جمهورية إسلامية بالعالم..! ولم تتوقف مفارقات 11 فبراير عند هذا الحد، بل أن هذا اليوم وافق يوم ميلاد الملك فارق، أخر ملوك المملكة المصرية وأخر من حكم مصر من الأسرة العلوية، والذي تم خلعه على يد الضباط الأحرار بثورة 23 يوليو 1952م، وقد تفنن الكتاب والمؤرخين بتلك الفترة بتشويه صورته، حتى أن صوره بالأفلام المصرية القديمة تم قشطها وكأنهم يريدون محو أثره للأبد، فأراد القدر أن يكون يوم ميلاد أخر ملوك مصر يوم إسقاط نظام مبارك أخر رؤساء ثورة 23 يوليو!!. وكانت أطرف مفارقة من وجهة نظري، هي ورقة نتيجة التقويم بهذا اليوم، ففي الغالب تكون هناك حكمة مدونة أسفل كل ورقة، فإذ بورقة يوم الجمعة 11 فبراير 2011م .. 8 ربيع الأول 1432ه ؛ مدون بأسفلها حكمة (من كثر ظلمه واعتداؤه.. قرب هلاكه وفناؤه )..!. - وبالنظر بعين الاعتبار لشهري يناير/ فبراير 2009م، وبالمقارنة بينهما وبين يناير / فبراير 2011م، نجد أن في كلا العامين كانت المظاهرات والمسيرات تجوب مدن العالم سواء عربية كانت أو غربية.. بخصوص مصر!، ففي عام 2009 كانت المظاهرات مناوئة لسياستها بخصوص الحرب على غزة وفتح معبر رفح، ورفعت اللوحات المناهضة لمبارك والساخرة منه، وفي بعض البلدان تم حرق العلم المصري، ولكن بعام 2011 كانت المظاهرات تأيداً لثورة مصر، ورفع العلم عاليًا شامخًا بكل بقاع الأرض، ومع ذلك ظلت اللوحات المناهضة والساخرة من مبارك مرفوعة!!. - يوم 4 مايو 1928م.. في هذا التاريخ ولد الرئيس المخلوع مبارك، وفي نفس الوقت تم إنشاء سجن مرزعة طرة، ليكون مبارك أول رئيسًا مصريًا عربيًا يُصدر قراراً ضده بالحبس، والمفارقة أن السجن الذي تم إختياره له هو طرة!!.. وإن لم يكن دخله حتى الآن، ولكني أتوقع دخول طرة التاريخ بدخول مبارك له خلال الفترة القادمة!!. - كنت ألاحظ ظاهرة متكررة بأيام الإعتصامات والمظاهرات السابقة للتنحي، ألا وهي انقسام المشهد لأربعة -كادرات-.. كادر خاص بالمتظاهرين من الثوار؛ ممن يشعلون المكان بصوتهم الجهور وشعارتهم الرنانة وإرادتهم الحديدية، والثاني خاص بقوات الأمن سواء من الجيش أو الشرطة ويختلف الموقف حسب نوع القوات، والثالث هو لمصوري الحدث سواء صحفيين أو مدونين أو هواة البطولة الكاذبة!، والأخير كان للمشاهدين على مقاعد الكافيهات والقهاوي المحيطة بالميادين، يشاهدون المظاهرات ويدخنون النارجيلة، وكأنها مباراة كرة قدم أو دوراً للطاولة، المفارقة هنا هي الأسوء على الإطلاق، فتجد المتحكم بالشارع المصري بهذه الفترة التي نمر بها الآن؛ هم فئة مدخني النارجيلة، لم يكن لهم دور ولا صوت ولا تأثير وقت زخم الثورة ودمائها، واليوم تجدهم يزجون أنفهم لتخرب -مالطا- بل ويحركون الشراع أينما وكيفما أرادت رياحهم!. قد يكون هناك الكثير من تلك المفارقات ولم تلفت نظري، لجهلي بها..، وقد نجد أخرى جديدة تحدث بالفترة القادمة، وربما يسخر منا قدرنا، فقد نجد مثلاً من يظهر علينا من ميدان التحرير وعلى وجهه الغير مألوف ابتسامة بلهاء، ليقول للشعب المصري.. (دي كانت الثورة الخفية، ولو عايز تذيع.. قول ذيع)..!، أخشى ما أخشاه بعدما قطعنا مشواراً طويلاً مؤلماً، نرجع بخفي حنين!، ولهذا أقول لكم ولهم ولنا.. عار علينا أن نقبل بدور قطع الشطرنج مرسوم لها طريقها معدود عليها خطواتها حتى وإن خدعونا بلقب الملك..!!!.. كن أنت اللاعب ولا تكن أداة اللعب بأيديهم...!.