لا يكاد يذكر شأن في عالمنا العربي إلا ويتم البحث فيه عن تصريح أمريكي لتحليله، أو موقف أمريكي لتقييمه، أو مؤامرة أمريكية لكشفها، لدرجة تكاد فيها السياسة الأمريكية الخارجية أن تصبح شأنا داخليا عربيا. وهذا بحد ذاته ليس بعيدا عن الصحة، لكنه يبدو واقعا غريبا عن المنطق. هذا الواقع العربي الغريب يبدو أنه يقف هذه الأيام على مفترق طرق، وهو بصدد أن يسلك طريقا جديدا، ويبني واقعا جديدا ومغايرا، تتقلص فيه الغرابة ويسود فيه المنطق. ومع ذلك، وحتى ونحن في طور ملامسة معالم ذاك الطريق، لا زلنا نبحث في الولاياتالمتحدة عن التصريح والموقف والمؤامرة، وهذه من طبيعة الأشياء. فالظرف العربي الراهن، الذي يقف على مفترق طرق، لن يتحول بين ليلة وضحاها من الواقع إلى نقيضه، وأن الحراك والثورات التي تهز أركان الواقع العربي من محيطه إلى خليجه، لن تحول العالم العربي، لا في المنظور القريب ولا المتوسط، من موقع المرتهن للإرادة الأمريكية المفروضة عليه، إلى موقع من يحمل السلاح في وجهها ويطردها من المنطقة، دون مرور بحالة وسط، فمن الصعب عقلا أن يكون البديل الفوري للتهافت "لكسب ود إمبراطور واشنطن" هو "العداء المطلق له" .. فذلك خيار بين مطرقة وسندان، وبين "الإنتحار" أو "الشهادة"، وانحصار الخيارات على هذا النحو ما هو إلا دليل إفلاس سياسة، ومدعاة لدق كل نواقيس الخطر، إعلانا أننا نعيش أزمة فكرية هي أزمة الأزمات. وبينما سطّر المثقفون والمفكرون الكتب بحثا عن فهم وطريقة لتوصيف تلك العلاقة، من خلال فهم لعوامل وتفاعلات المصالح الأمريكية في المنطقة وأضدادها، وبين عوامل القصور الذاتي عندنا والتي تجعل ميزان تفاعل تلك العوامل بعضها البعض، ميزانا مختلا في غير صالحنا. نحاول نحن المجتهدون للفهم والإدراك، أن نبسط الأمور قليلا كي نهضمها ونستوعبها، ونضبط بوصلة التغيير لدينا كشعوب ورأي عام، بحيث لا نسعى لا إلى انتحار ولا إلى شهادة. وفي هذه المحاولة، نصور العوامل تلك بأنها كنز وحارس مسلح، وخيمة وسوق. الكنز والحارس المسلّح المطلب الأمريكي بالسيطرة على، وإدارة الشرق الأوسط (والعالم العربي خارطته)، تبلور مع دخولها الحرب العالمية الثانية، ومن المصادفات أنه تزامن مع دعوة يهود العالم للولايات المتحدة كي تدعم وتتبنى مشروع قيام إسرائيل، بعد أن لعبت أوروبا دورها في تبني التمهيد له من خلال وعد بلفور والانتداب البريطاني في فلسطين. وأدى هذا التزامن في أن جعل مشروع الإثنين متوافقا حتى وإن لم يكن متطابقا على الدوام. وإذا أردنا أن نرسم تصورا كاريكاتوريا للأحداث، فإن الرسم في أبسط أشكاله يعطي صورة رجلين قدما إلى المنطقة من وراء البحار، الأول للهجرة والإستيطان، والثاني للاستكشاف وللاستثمار. واكتشف الثاني أن المنطقة تحوي كنزا أسطوريا ليس له مثيل في التاريخ، وأن الناس من حول الكنز لم يبلغوا بعد حدّ الرشد الحضاري، ويجب أن لا يبلغوه (من المنظور الأمريكي). الرجل المستكشف عازم على العودة مرة أخرى إلى ما وراء البحار، لكنه يحتاج إلى حارس مسلح يأتمنه على الكنز، ويكلفه بالحيلولة دون بلوغ الناس من حوله الرشد الحضاري الذي يمكنهم من الوعي بأسطورية الكنز في أرضهم، فعرض الرجل الأول (المهاجر للإستيطان) نفسه حارسا ومؤتمنا، واشترط نصيبه من الكنز أن يكون التسليح والتمكين. وعقدت الصفقة. كانت الحرب العالمية الثانية هي الفرصة التي أتاحت للولايات المتحدة أن ترث الشرق الأوسط من استعماره القديم، وتحقق حلمها الإمبراطوري بالسيطرة على موارده وفي مقدمتها النفط. وكانت الحرب أيضا هي الدفعة الرئيسية للمشروع الصهيوني للإنقضاض على فلسطين وإقامة دولة لليهود فيها. وهكذا، وفي منتصف القرن العشرين،"اليهودي المشرّد" أصبح متحصنا ومسلحا في أرض فلسطين، والعربي الراسخ في الجغرافيا والتاريخ، أصبح مشردا على هوامش الجغرافيا، وهائما في متاهات التاريخ. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واشتعال الصراع العربي الإسرائيلي، وبعد النهاية المأساوية (للعرب) في حرب فلسطين عام 1948، توهمت الولاياتالمتحدة أن ضمان سيطرتها على الموقع، واستمرار استحواذها على الكنز الأسطوري، يقضي بصناعة سلام بين الحارس المسلح الذي أثبت كفائته، وأهل الكنز الذي بان، على إثر الحرب، ضعفهم وتشرذمهم. وحاولت على مدى ثلاثة عقود، وفشلت. في مصر، حاولت مع الملك فاروق بين عامي 1948 و 1950 ولم تنجح، ثم جربت مع مصطفى النحاس منذ العام 1950 حتى العام 1952، ولم تنجح. فعزفت عن مصر واتجهت شرقا، فحاولت مع "نوري السعيد" في العراق، و"حسني الزعيم" في سوريا، والملك "عبدالله" في الأردن، ولم تتمكن، لأنها اكتشفت أن محاولتها لن تنجح إلا إذا نجحت في مصر، فعادت تحاول في القاهرة مرة أخرى، تختبر حظوظها مع جمال عبد الناصر منذ العام 1954 حتى العام 1970، وتنوعت اساليبها في الإقناع بين اللين والشدة، وبين الإغراء بأحلام رفاهية الحياة، وكوابيس القتل والتدمير بالسلاح، حاولت لكنها فشلت. توفي عبد الناصر وتولى بعده السادات، فعادت واشنطن تجدد محاولاتها، فوجدت عند الرجل استعدادا، لكن الظروف لم تكن مستعدة، كما أن الحارس المسلح المستوطن في فلسطين، أعمته حماقاته وصلف غروره بعد نكسة 67، وأوهمته أن لا حاجة له في السير خلف محاولات الولاياتالمتحدة. فوقعت حرب أكتوبر عام 1973، فهيأت الظروف ومسحت أوهام الحارس المسلح. تبدل الحال، وشُطب شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وكُتب مكانه شعار "السلام خيارٌ استراتيجي وحيد"، ونجحت الولاياتالمتحدة أخيرا في صناعة السلام، أو هكذا توهمت. الخيمة والسوق كان لقصة نجاح الولاياتالمتحدة في إلباس مصر ثوب السلام بطلان، أحدهم أنور السادات الحاكم في القاهرة، والآخر هو هنري كيسنجر والذي كان يجمع آنذاك بين منصب مستشار البيت الأبيض للأمن القومي، ومنصب وزير الخارجية، وهو جمع فريد في تاريخ السياسة الأمريكية لم تكن له سابقة، ولم تصبح له لاحقة حتى الآن، أن يجمع شخص بين المنصبين في آن. وكان كيسنجر دائما يحاذر الاقتراب من أزمة الشرق الأوسط خشية (على حد قوله) من أن تمنع يهوديته العرب من الوثوق به. لكن حرب أكتوبر عام 1973 فرضت عليه أن يقترب، وهكذا فعل. وقبل أول زيارة له للمنطقة، طلب كيسنجر من مستشاري وزارة الخارجية وعدد من أساتذة الجامعات إعداد دراسة عن الطريقة المثلى التي تعاملت بها الولاياتالمتحدة مع العرب منذ قدومها إلى المنطقة وحتى الآن. ومن بين كل الدراسات والتقارير، اختار كيسنجر ورقة (من صفحة واحدة) كان عنوانها "الخيمة والسوق". وذكرها هو في مذكراته على النحو التالي: "لا داعي لأن تشغل نفسك في الوقت الراهن بنظريات كثيرة في إدارة وحلّ الصراعات، وفنون التفاوض، ودواعي الأمن. ما ينفعك الأن هو أن تتذكر "تقليدين" من "ثقافة" الحياة العربية. تقليد "الخيمة" وفيها شيخ يحيط به مجلس، والسلطة في يده وحده. وعندما تدخل عليه سوف تجد من حوله كثيرين يدخلون ويخرجون، ويهمسون في أذنه ويهزون رؤوسهم، وقد ترى أحدهم يتوجه أمامك إلى رجل آخر في الخيمة وهو يشوّح بيديه لينقل له شيئا. كل تلك مؤثرات شكلية وصوتية. ركز على الشيخ وامدحه وبالغ في مدحه، وبمقدار ما تعطيه من مدح، سيعطيك هو مما عنده من ماء وزرع وماشية. التقليد الثاني هو "السوق". والتفاوض فيه عند العرب ليس علما بل هو "فن المساومة"، ويمارسه أصحابه بمزاج واستمتاع، وهم عادة يبدؤون أي صفقة بسعر مبالغ فيه، وحين تراجعهم في السعر تعلوا أصواتهم ليقسموا لك بأنهم لم يبالغوا، ولكنهم من أجل خاطرك سوف يتهاودون في السعر ويخفضونه، والسعر الجديد المخفض هو كلمتهم الأخيرة، وأنت حر. وحين تسمع السعر المخفض وتؤكد لهم أنه لا يزال أعلى مما أنت مستعد لدفعه، سيعودون لك بالأحلاف، وبأغلظ الأيمان، بأن ذلك أقصى ما يستطيعون عرضه، لأن قبولهم بسعر مخفض أكثر يعني لهم خسارة محققة. لا تصدق كلامهم، وتمسك بسعر أقل تراه معقولا ومناسبا، وصمم عليه، وستراهم أمامك يتنازلون خطوة بعد خطوة، وعليك وحدك أن تقدر بإحساسك - دون أن يساعدك أحد - إن كانوا قد وصلوا للقاع الذي لا يقدرون بعده على النزول أكثر". في طريقه للمنطقة، حط كيسنجر الرحال في الرباط يوم الخامس من نوفمبر من العام 1973، قبل يومين من لقائه السادات، أراد كيسنجر مشورة الملك الحسن الثاني والتي رآها ضرورية، فالعاهل المغربي هو الصديق الموثوق والخبير في شؤون المنطقة ورجالاتها. وعندما عرض كيسنجر الورقة على الحسن الثاني (حسب رواية كيسنجر في مذكراته) .. تأمل العاهل المغربي قليلا قبل أن يرد: "لكن تحسب من أنه هناك في المشرق حيث أنت ذاهب، ثلاث خيام وثلاثة شيوخ، خيمة في القاهرة وشيخها السادات، وخيمة في الرياض وفيها فيصل، وأخرى في دمشق وشيخها الأسد. الشيخان الأول والثاني هما الشريكان الحقيقيان، أما الثالث فهو الشيخ المخدوع. ركز على السادات وفيصل، واترك الأسد يموت غيظا وحسرة." جاء كيسنجر إلى المشرق وجلس في الخيام الثلاث وقابل شيوخها، وخرج بانطباع بعدها لخصه في جملة واحدة "أحببت السادات، واحترمت الأسد، ولم أفهم فيصل". وقد قام كيسنجر بمدح الشيوخ الثلاثة، وأسرف بالمديح دواوين شعر، وصدق البعض، والبعض لم يصدق. كان أول من صدق هو السادات (ولعله كان يريد أن يصدق). وقد سحره كيسنجر حين قال له في أول لقاء: يا فخامة الرئيس، رجل مثلك من صنّاع التاريخ لا يصح له أن يناديني بالدكتور كيسنجر، من الآن أرجوك أن تضعني في حجمي أمامك وتناديني "هنري" .. صارت هذه الجملة بعد ذلك عرفا يستخدمه كل الرؤساء الأمريكيين، فكان قولهم لنظرائهم العرب: "يا صاحب الجلالة، أو الفخامة" ناديني جيم "بدلا من جيمي كارتر" أو "جيري" بدلا من جيرالد فورد، أو رون بدلا من "رونالد ريغان" وجورج وبيل وجورج، وهكذا حتى يومنا هذا. بينما لا ينادي الزعماء العرب بعضهم بعضا بإسمهم الأول إلا أثناء المشادات. وصارت الفكرة الأمريكية في تعاملها مع العرب بأن تكون العلاقة حميمية داخل كل خيمة، فتؤثر في التعامل داخل كل سوق مساومةً في المواقف. أصبح المشهد العربي يتمحور حول شيخ يتوسط مجلس اجتمع لاستقبال مندوب أمريكي يريد أن يجدد امتياز حيازة الكنز ويضخم صلاحيات الامتياز. المندوب يسرف في المديح، فينتعش الشيخ ويأمر بإغراق المندوب بما يطلب من ماء وزرع وماشية، والمجلس من حول الشيخ يصفقون ويهزون رؤسهم بالموافقة. وخارج الخيمة سوق مواقف، يعلو فيه الصراخ والصياح صاخبا، والأيمان مغلظة، وصانع الوهم متمسك بسعره، والباعة من حوله يتراجعون ويقبلون، أما الحارس المسلح، فمهمته الضرب بالسلاح لكل من لم يقبل الصفقة. جاءت الصحوة العربية لتخلط أوراق لعبة صاحب الامتياز، فكل عربي نزل إلى الشارع عاري الصدر أصبح شيخا، والحارس المسلح غير قادر على تأديب الجميع وضربهم بالسلاح. لم يبقى إلا المديح، وهو ما كان، فأوباما يريد من الشباب الأمريكي أن يتعلم من الشباب التونسي، ويرى في الشباب المصري صنّاع تاريخ جديد كما رأى كيسنجر السادات، ولا تزال قصائد المديح تتوالى في مدح الشيوخ في الشارع، بل وحتى هجاء شيوخ الأمس في الخيام. فهل نقع في الفخ كما وقع فيه شيوخ الخيام، أم نتعلم أن المديح لا يغطي على الأفعال. وأن تعديل صفقة امتياز الكنز أصبح واجبا، وإن إلغائها يكون حين تتوافر الظروف، ونستغني عن "فن المساومة" في سوق مواقفنا ونستعين عنه بمبدأ ثبات الأسعار. ويصبح الكنز هو صناعتنا التي نروجها في أسواق المندوب، ويصبح المندوب هو من يحلف بأغلظ الأيمان، بينما هو يتراجع في تحسين الشروط خطوة خطوة. حتى نضع له شرطا، وهو أن لا يحرك ساكنا وهو يشاهدنا نخرج الحارس المسلّح من الديار. ---------- (هذا المقال مستوحى من ذاكرة اطلاعات في عدد من كتب الأستاذ القدير محمد حسنين هيكل .. والأمانة تقتضي الذكر والإيحاء، والتبيان بأنه مستوحى من الذاكرة وليس نقلا للنصوص ولا الأسلوب)