كتب الأستاذ أحمد برقاوي بتاريخ 23\04\2011 في صحيفة السفير اللبنانية مقالا بعنوان "سراق الزمن" .. تحدث فيه كيف سرق الطغاة زماننا، وكيف تُعبّر صرخة الكهل التونسي الشهيرة "هرمنا" عن ألم جيل من أجيال أمتنا، وصفها الكاتب بأنها "جملة تختصر ألم كائن عاش أربعين عاماً ينظر إلى صورة جلاده منتصبة في الشوارع والساحات ومداخل المدن. عقود من الزمن وهو يلعب دور المحب وهو الكاره. عقود من الزمن وهو يعيش حال انتظار الخلاص، والخلاص لا يجيء، ففقد حتى لذة الانتظار واستسلم لخيبة أمله." كهولة ذاك الرجل ووصف الكاتب لصرخته ترسم في المخيلة تمازجا تعيدنا إلى ذكرى أحلام أمة ظنناها تحطمت، وآمال عزة حسبناها انتحرت، وحركة فوارة توهمنا أنها ركدت وبردت، أحلام وآمال وحركة روى عنها كل من عاصرها في الخمسينيات والستينيات ... وما أشبه الليلة بالبارحة. هذه المرة كانت الريادة لتونس، فأزاحت في أقل من أربعة أسابيع أحد سرّاق زماننا، ولم تشأ مصر أن تتخلف، ولم تنتظر طويلا حتى خلعت هي بدورها أحد أكبر أولئك السرّاق، وانفجرت على الفور حركة فوارة في عالمنا العربي من خليجه إلى محيطه، وتفجرت الحناجر وهي تهتف مرة أخرى للعزة والحرية والكرامة، وسال الدم زكيا أضحية وقربانا. هي القصة ذاتها، ثارت مصر في الخمسينيات فتغير وجه العالم العربي والمنطقة، وعاد للمنطقة فاعلها الأول يقاتل لاسترداد دوره. رُفعت شعارات العزة والكرامة والحرية كما هي ترفع اليوم، تصور العرب حينها أنهم عائدون إلى فلسطين "الصيف القادم"، ونسمع اليوم أصواتا مشابهة، وظلت الأحلام والأمنيات مرتفعة، من الخليج إلى المحيط، هائمة في الأفق بانتظار أن تحط أقدامها على أرض الواقع، لكنها ما أن فعلت حتى تحطمت على صخور ما كان يسمى آنذاك "الرجعية العربية" وتحالفها مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي. هزمت الحركة، وثارت حمم براكين كل القوى التي قضّت تلك الحركة مضاجعها، وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتنهش لحمها، وتشوه تاريخها، وفُتح الباب لكل أعدائها أن يفرغوا ما في صدورهم من غل تجاهها، ومثل ذلك حدث في التاريخ، أن يرتد الظلام يطمس النور في وقت الغروب، حدث إزاء كل تحول تنويري ابتداء من الأديان السماوية (صلب المسيح وطمس أنواره والردة بعد الإسلام) وليس انتهاء بثورات الأرض (عودة البوربون بعد الثورة الفرنسية)، وفات الظلام أن يستوعب، وذلك من طبيعة الأشياء، أن ما بعد الليل وظلامه الدامس إلا فجر يوم آخر مشرق ومنير. وها هو الفجر يعود من جديد، تونس أوقدت الشعلة، ومصر حملتها لتضيء بها المنطقة بأسرها. كان الطريق في الخمسينيات والستينيات هو الإشتراكية والقومية العربية، والطريق هذه المرة الديمقراطية وسيادة القانون، أما الغاية فهي ذاتها "العزة والكرامة والحرية"، والظلام هو ذاته، الرجعية العربية والمشروع الأمريكي الإسرائيلي، لم تتغير الغايات ولا المعوقات .. وها هو الظلام يرمي بكل ما يملك من عتمة يحاول بها طمس النور من جديد، غير منتبه أنه بذلك، حتى لو بان لفترة أنه نجح، فإنه يناطح طبيعة الأشياء، فما الليل بسابق النهار، وأنه يناطح طبيعة التاريخ، فما الأمس مقبل بل هو الغد. لكننا اليوم لا بد أن نتعلم من تجربة الأمس، ولا بد أن نتحسب من تكرارها، ولا بد أن نحصر تعاقب الليل والنهار في الطبيعة، كي يظل الحاضر والمستقبل طبيعة تاريخية منيرة ومستدامة، ولا بد لتحقيق ذلك أن نمعن النظر في خبايا تلك الحقبة وأسرارها، فهي كتب عنها معاصروها الكثير، والأهم هو أن نمعن في رواية من آمن بها، لا من حاربها وشوه صورتها، وعلينا، نحن جيل هذه الحركة الجديدة، أن لا ننتظر حتى تأتينا بالرواية قناة تلفزيونية هنا أو صحيفة هناك، فكلها إما أنشأها الظلام أو طمس نورها بعد أن ساد عصره، بل علينا البحث عنها، هي هذه مسؤوليتنا الكبرى، علينا أن نسعى إلى كشف الأسرار لإنعاش الذاكرة وتحديد البوصلة وإدراك موضع الوقوف، لنعلم مسار الطريق. لقد تفجرت اليوم مرة أخرى تفاعلات اجتماعية وسياسية واقتصادية ستشكل بلا أدنى شك شكل عصر مقبل. لكن في عالمنا العربي وللأسف، لا تكون تلك التفاعلات صراعا باردا بين تيارات اجتماعية وفكرية ومصالح اقتصادية، بل هي حرب دامية بينها وصراع بقاء، ومعارك ظاهرة وخفية، ومطامع ومؤامرات. ثم هي محاولة ظلام لإعادة ترويض همم الشعوب وأفكارها بحجب النور عنها، وإفقادها الثقة بكل شيء حتى تصبح على استعداد لتقبل أي شيء، وهو في ذلك يحرك كل أدواته، من إعلامه الذي يزوّر الكلمة والصورة، إلى رصاصه وباروده الذي يسفك دم كل من لم يروضه زور تلك الكلمة وتلك الصورة .. وسلاحنا في المقابل، إضافة إلى صدورنا العارية وقبولنا لحجم التضحيات، يجب أن يكون أكبر قدر من الإلمام بحقيقة ما جرى في الحقبة السابقة، لكي نتجنب تكرارها، ولكي لا يظهر لنا، بعد عدة عقود، كهل في إحدى العواصم العربية، يصرخ مرة أخرى "هرمنا" .. ولكي لا يضطر كاتب بعدها أن يكتب مقالا يعنونه "سرقوا زماننا مرة أخرى".