فى عام 1960 نشرت مجلة «صباح الخير» على غلافها رسماً لفنان الكاريكاتير الكبير «أحمد حجازى»، يصور فتاة تقف أمام دولاب ملابس مفتوح، يضم صفاً من الرجال مختلفى الأعمار والأحجام، يرتدون ملابسهم الكاملة، ويتدلون من الشماعات التى تعلق فيها الملابس، وهى تسأل نفسها فى حيرة: يا ترى أروح النادى بمين النهاردة؟! ومع أن الرسم كان يسخر من الفتيات الارستقراطيات متعددات العلاقات، اللواتى لا يشغلهن سوى البحث عن رجل - أو فستان - مختلف، يخرجن به كل يوم، إلا أنه استفز الرئيس عبدالناصر، الذى ضرب به المثل فى الاجتماع الذى عقده بعد يومين من صدور «قانون تنظيم الصحافة» فى 24 مايو 1960 - على مدى انعزال الصحف عن التعبير عن المجتمع الجديد الذى تبنيه الثورة، مما دفعه لإصدار قانون ينقل ملكية الصحف الكبرى إلى «الاتحاد القومى» وهو التنظيم السياسى الوحيد آنذاك.. وأنّ الأوان قد آن لأن تعبر الصحافة عن الشعب لا عن الطبقات المرفهة والفارغة، وأن الشعب لا يوجد فى «نادى الجزيرة»، بل فى قرية «كفر البطيخ» - إحدى قرى دمياط - حيث لا تشغل الفتيات أنفسهن كل صباح بالبحث عن فستان - أو رجل - مختلف يذهبن به إلى النادى، بل عن عمل يشاركن به فى إعالة أسرهن. وبعد أيام قليلة كانت كل الصحف - التى انتقلت ملكيتها إلى الاتحاد القومى - تنشر تحقيقات صحفية عن «كفر البطيخ».. وبعد أسابيع كان «المسرح القومى» يفتتح موسمه بمسرحية بعنوان «كفر البطيخ» من تأليف «سعد الدين وهبة». وقانون تأميم الصحافة، الذى نجح «محمد حسنين هيكل» قبل صدوره فى تغيير اسمه إلى «تنظيم» الصحافة - الذى تمر بعد غد خمسون عاماً على صدوره - هو القانون الذى نقل ملكية الدور الصحفية الأربع الكبرى، التى كانت قائمة آنذاك، إلى الملكية الخاصة للدولة، وهى: «الأهرم» و«دار الهلال» و«دار روزاليوسف» و«دار أخبار اليوم» التى تشكلت منها فيما بعد - ومما ضُمَّ إليها وهى: «دار التحرير»، التى كانت من الأصل ملك «الاتحاد القومى»، و«وكالة أنباء الشرق الأوسط» و«مؤسسة أكتوبر» و«دار المعارف» و«دار الشعب» و«دار التعاون» و«الشركة القومية للتوزيع» - ظاهرة «المؤسسات الصحفية القومية»، وهو الاسم الذى أطلق عليها منذ صدور قانون سلطة الصحافة عام1980، تمييزاً لها عن الصحف الحزبية، التى توالى صدورها منذ عام 1977. وكان المنطق الذى استند إليه «عبدالناصر» فى إصدار قانون تنظيم- أو تأميم- الصحافة، هو أنه يسعى لكى تسيطر الدولة على الاقتصاد، كى توجهه لخدمة أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتثبيت الاستقلال، وليس منطقياً أن يترك الإعلام- الذى كانت الصحافة هى أداته الأساسية أيامها - فى أيدى أفراد يوجهون الرأى العام طبقاً لمصالحهم المالية وارتباطاتهم السياسية وأمزجتهم الخاصة، بعيداً عن المصالح العامة، وأنه يريد صحافة تتولى تعبئة الشعب للالتفاف حول أهداف الثورة.. لا صحافة تشغله بفسافس الأمور. وعلى امتداد الأعوام الخمسين الماضية، جرت فى النهر مياه كثيرة، انتقلت الصحف القومية من ملكية الاتحاد القومى إلى ملكية الاتحاد الاشتراكى الذى حلّ محله، وحين جرى عام 1978 فكه إلى ثلاثة أحزاب، كانت الصحف هى الوحيدة من ممتلكاته التى لم تتوزع على الأحزاب التى ورثته، إذ حرصت الحكومة على أن تحتفظ بملكيتها وتوجيهها، ورأت أن توزيع هذه الصحف على الأحزاب- كما اقترحت آنذاك- يعطيها قوة وتأثيراً، لم تكن تريده لها، وحين تغيرت دفة الريح وحلّ «الانفتاح» محل «الاشتراكية» كانت الصحف القومية التى تدافعت لتجرى تحقيقات عن «كفر البطيخ» هى نفسها التى تنافست فى إجراء تحقيقات عن اشتراكية الفقر والانغلاق وعدالة الرخاء الذى سيأتى به الانفتاح. فى اليوبيل الذهبى للصحف القومية، آن الأوان للتوصل عبر حوار حرّ إلى مشترك وطنى حول مستقبل الإمبراطورية الإعلامية التى تملكها الحكومة، انطلاقاً من حقيقة واضحة، هى أن النظم التى تقوم على الديمقراطية والتعددية الحزبية لا تعرف إعلاماً تملكه الحكومة.. حوار يحسم الخلاف الدائر داخل الإدارة بين الذين يطالبون بخصخصة الصحف القومية، والذين يحذرون من مخاطر وقوع هذه القلاع الصحفية التاريخية فى يد رأس المال الخاص ليسخرها فى خدمة مصالحه الضيقة.. وهو خلاف قائم بين المشتغلين بالمهنة، الذين يتخوف معظمهم من أن يكون مصيرهم، إذا ما خصخصت الصحف، هو مصير العاملين بشركة النوبارية، وأن يضطروا لخلع ملابسهم أمام مجلس الشعب.. ويذهب بعضهم إلى أن الصحف القومية هى التى توازن الفوضى الإعلامية التى قد تجلبها الخصخصة. وربما كان الحل الموفق السعيد هو الفصل التام بين الملكية والإدارة، فتظل الصحف القومية ملكاً لمصر الشعب والدولة والوطن، وليس لمصر الحكومة أو الحزب الحاكم، على أن تديرها وتوجهها هيئة مستقلة عن الحكومة وعن الأحزاب، أو تمثل الجميع، ويتولى رئاسة تحرير مطبوعاتها صحفيون مهنيون يخلعون أرديتهم الحزبية على أبوابها. باختصار ووضوح ومن الآخر: تأميم الصحف.. ظاهرة كان لها ما يبررها، حين كانت تحكمها حكومة اشتراكية تسيطر على الاقتصاد.. وإذا كانت تصر على الإبقاء على الصحف ضمن سيطرتها.. فلماذا لا تعود لتسيطر على الاقتصاد.. وتؤممه.. تطبيقاً لحكمة «أم كلثوم» الخالدة: عايزنا «نفضل زى زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان»؟! عظمة يا ست!