حسب تعريف عالم الاجتماع ماكس فيبر فإن الدولة هى تلك الجهة التى تحتكر حق استخدام القوة المقننة فى سبيل فرض سلطتها. إذا صح ذلك فنحن فى الظروف الحالية- بعد اختفاء رأس السلطة التنفيذية وسلطات الأمن التى كانت تتبعها- نعيش فى ظل دولة عسكرية مؤقتة، ينتظر منها الكثيرون إكمال مرحلة الثورة. من ثم توالت مثلا المطالب بالإطاحة برموز النظام القديم ومحاكمتها فوريا، بدلا من تأجيل ذلك لما بعد اكتمال المرحلة الانتقالية وإقامة سلطة مدنية تتبعها قوات أمن تشرف عليها جهات تنفيذية وتشريعية منتخبة ووجود سلطة قضائية مستقلة تماما.. وتجسدت تلك المطالب فى «مليونيات شعبية» متكررة، ترمى لتحريك الحكم المؤقت، وتوكيله ضمنيا بقيادة عملية إتمام ثورة شعبية لم تكن لديها قيادة بارزة أو رؤية واضحة وموحدة لمستقبل الدولة المصرية. هذا الوضع قد تنتج عنه حالة من الفوضى والتخبط يمكن أن تؤدى فى النهاية إلى الديكتاتورية، فالمشكلة أن ال«شعب» ليس كتلة واحدة، بل يتكون من فئات عديدة، لكل منها مصالح ومطالب مختلفة، بل متضاربة أحيانا. وهذا الكلام ينطبق بالذات على مجتمع مثل المجتمع المصرى. مجتمع تتباين فيه بحدة ليس فقط المصالح والإمكانيات الاقتصادية، إنما أيضا الإطارات التصورية التى تستخدمها كل مجموعة اجتماعية فى تفسير العالم المحيط بها- لأنه مجتمع ترتبط فيه القيم الأخلاقية التى تتبعها كل فئة، ونمط الحياة المنبثق عنها، بالطبقة الاجتماعية التى تنتمى إليها تلك الفئة. الشد والجذب الناتج عن هذا التباين ليس بجديد على المجتمع المصرى، فمن يتابع الأفلام القديمة ربما يلاحظ أن الكثير منها مبنى دراميا على أساس صراع بين شخصيات تعيش بطريقة متحررة نسبيا- تعكس تصوراً مشابهاً (سطحيا على الأقل) لما هو سائد فى الغرب- وبين شخصيات أخرى متمسكة بقيم محافظة، ترجع إلى تقاليد الريف المصرى والتدين التقليدى. بالفعل، يمكن اعتبار جزء كبير من الجدل السياسى والفكرى الذى ساد قبل قيام حركة يوليو 1952 ظاهرة عاكسة لهذه التناقضات والصراعات الناشئة عنها، والتى حسمتها حركة يوليو إلى حد كبير لصالح القوى الاجتماعية التقليدية.. أما الأخطر الآن فهو أنه فى ظل سيادة نظام يوليو، وفى ظل التأثير الإقليمى على نسيج المجتمع المصرى من قِبل دول تبنت مفاهيم رجعية للدين، تنامت التفسيرات الحرفية المتشددة للنص الدينى، مما جعل التدين التقليدى المحافظ يبدو متحررا للغاية. فاتسعت بالتالى الفجوات الثقافية والفكرية وتعمقت. لنأخذ كمثال الأحداث الأخيرة فى محافظة قنا، والتى لا توحى بالتفاؤل على الإطلاق. أعتقد أن من نظّم هذه الأعمال قد تشجع بنجاحات ثوار التحرير، رغم أن أغلبية هؤلاء لا يؤيدون النهج الطائفى الصريح والهتافات المتطرفة التى تبناها بعض من شاركوا فى مظاهرات قنا- ولقد أدان بالفعل «ائتلاف شباب الثورة» ممارسات «التعصب الطائفى»، وقال إن استمرارها قد يمثل ضربة للتلاحم الشعبى. ويمكن بالفعل توقع المزيد من التصدع الاجتماعى تحت تأثير ضربات مليونيات تقسم فئات الشعب: مليونية «مدنية» مثلا، وأخرى إسلامية، وربما فى المستقبل مليونية «اشتراكية»، وأخرى مضادة تدعو لحماية الملكية الخاصة إلخ... ولا يمكن بالطبع أن تلبى السلطة الحاكمة كل المطالب المتضاربة، وإذا انحازت لفئة معينة، أو فرضت وجهة نظرها، تتحول تلك السلطة من سلطة مؤقتة تحمى الثورة إلى سلطة ديكتاتورية، مما سيزيد من احتقان الفئات التى انحازت ضدها، مما قد يؤدى بالتالى إلى أن تستخدم هذه السلطة القمع لإسكات قطاعات المجتمع المتضررة. لنعد مرة أخرى إلى «ماكس فيبر»، إذا كانت الدولة هى السلطة التى تتمتع بحق الاستخدام الشرعى للعنف، ففى ظل الحكم المتسلط يكون حق استخدام القوة نفسه هو ما يبرر الشرعية والبقاء فى السلطة من الأساس، وفى كثير من الأحيان تتذرع السلطة بضرورة حفظ النظام والاستقرار لتبرير ذلك (كما نعلم من تجربة مبارك). أما فى سياق النظام الديمقراطى، فتحتفظ السلطة بحق استخدام القوة فقط فى إطار حماية سيادة القانون والتعددية السياسية والفكرية، وحق كل فئة فى المجتمع فى طرح آرائها بحرية.. ولا بأس فى هذه الحالة من تضارب الأطروحات والبرامج السياسية، فالدولة تضمن استحالة فرض فئة معينة رأيها على المجتمع بشكل يكبل الحريات أو يمنع تداول السلطة. وقد يختلف الناس جذريا، لكنهم يجتمعون على صيانة تلك المبادئ. إن النظام التعددى يحمى الحرية من خلال ضمان حق التعبير، وأيضا التغيير من خلال العمل السياسى، أما الاستمرار فى محاولات التأثير على سلطة غير منتخبة من خلال التجمهر، فقد يؤدى إلى تشرذم المجتمع واتجاهه نحو الفوضى، وأيضا نحو الحكم الديكتاتورى القمعى فى النهاية، لذلك فإن المطلب الأساسى الملح الآن يتجسد فى ضمان أن يرعى الحكم المؤقت التحول نحو نظام تعددى مستقر يضمن حقوق جميع الفئات. ولأن التنظيمات السياسية الناتجة خلال مرحلة التحول تلك هى التى ستصوغ طبيعة الدولة المستقبلية، فمن الطبيعى أن يتركز الجهد فى تفعيلها، بدلا من تضييع الطاقات فى الشارع والميدان فى كل مناسبة... وبدلا من أن يضيع البلد منا فى النهاية. [email protected]