بقلم / أحمد الأقطش أنطبع في أذهان البعض أن الشريعة الإسلامية جاءت لتطيير الرقاب وإجبار الناس على التدين ومحاربة غير المسلمين. والبعض الآخر يرى الشريعة هي العبادات وارتداء النقاب وإطلاق اللحى. وقليلون هم الذين يعلمون أن الشريعة قامت على مصالح الناس الدينية والدنيوية، ولها مقاصد كبرى هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال. وبالتالي فكل أمر يحقق هذه المقاصد، فهو من صميم الشريعة الغراء. انتشر مقطع فيديو على اليوتيوب للشيخ عثمان الخميس، وهو شيخ سلفي كويتي متخصص في الرد على الشيعة، يتحدث فيه عن المظاهرات التي تجتاح البلاد العربية وانتقاده لها من المنظور الشرعي - كما يراه - وانتقاده للعلماء الذين أيدوا هذه الثورات. ومعروف للجميع موقف هؤلاء الشيوخ من المظاهرات والاعتصامات والثورات ضد الحكام الطغاة، ولكن هذا الرجل تناول الثورة المصرية على وجه الخصوص بعبارات تجرح ضمير ووجدان أي مصري ومصرية. يقول في البداية إن الفتاوى التي أباحت المظاهرات كانت عاطفية وحماسية وليست قائمة على دليل شرعي لا عن النبي ولا عن الصحابة، وبالتالي فالأصل في هذه المسألة هو عدم جواز الخروج على الحاكم، بل السمع والطاعة، وإلا صار فساد عظيم. وهنا استحضر النموذج المصري - وهو الحاضر دائماً في أذهان كل العالم الآن - وبدأ يصحح للناس المعلومات المغلوطة (؟) لديهم بخصوص ثورة المصريين وشهدائهم، فلا هي شرعية ولا هم شهداء! أول تصحيح وضعه الخميس أمام سامعيه هو أن الثورة لم تكن ثورة إسلامية بل كانت ثورة من أجل الدنيا. والسؤال هنا: ما معنى أنها دنيوية لا إسلامية؟ والجواب جاهز عند الشيخ: لم يخرجوا من أجل تطبيق الشرع، وإنما خرجوا لأنهم يريدون حكماً ديمقراطياً. هو خروج للدنيا، ولا يجوز أن تلبس الثورة لباساً شرعياً. ولذلك خرج المسلمون والنصارى والملحدون، وكل هؤلاء إنما خرجوا من أجل الدنيا. وهنا فتح الله على الشيخ بهذا الدعاء للمصريين: أسأل الله أن يعطيهم الدنيا! ثم يختم كلامه بقوله: كذلك القتلى الذين قتلوا يقال عنهم شهداء، وهذا غير صحيح. هؤلاء ليسوا شهداء، وليس هذا طريق الشهادة. يعني من الآخر .. ماتوا من أجل الدنيا، فكيف نقول عنهم شهداء؟! هذا الكلام القاطع كفيل - هكذا يظن الشيخ - بأن ينفر الناس من الثورة المصرية، لأن المصريين كانوا يطلبون الدنيا وليس الآخرة! فإنا لله وإنا إليه راجعون. بالتأكيد هذا الكلام خطأ تماماً وتضليل شنيع، ولا أريد الخوض في شخص الشيخ الخميس فالأهم هو مناقشة الأفكار لا الأشخاص على أية حال. أما قوله إن المظاهرات هي خروج على الحاكم وبالتالي حرام، فهو قول فيه تدليس عظيم أو جهل عقيم! فما العلاقة أصلاً بين المظاهرات السلمية التي يخرج فيها الناس يرفعون اللافتات المطالبة بحقوقهم، وبين الانشقاق عن الحاكم ورفع السلاح ضده وقتاله؟! كيف يفتي هؤلاء أن هذا هو ذاك؟! بل الخروج على الحاكم الظالم نفسه هو أمر مختلف فيه .. ألا يعلم الشيخ الخميس وغيره أن الإمام أبا حنيفة النعمان كان يرى وجوب الخروج على الحاكم الجائر وقتاله بالسيف؟ ألا يعلم بخروج كبار التابعين على الحجاج بن يوسف وفيهم أربعة آلاف قارئ للقرآن وفقيه وعالم جاهدوا ضد الحجاج وضد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؟ هل الشيخ الخميس وغيره أعلم من خيار التابعين هؤلاء أمثال الشعبي وسعيد بن جبير؟ ألم يقرأ كلام ابن حزم في الرد على مَن قال بعدم الخروج على الحكام الظلمة حين قال: "فاستعظمت ذلك، ولعمري إنه لعظيم! وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية السلف يوم الحَرَّة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأن الحسين بن علي ومن تابعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً، رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قتلتهم! وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم. أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله مَن كفَّرهم فهو أحق بالكفر منهم". فاتضح أن الخروج على الحاكم الجائر وقتاله بالسيف ليس حراماً كما يصيح هؤلاء ليل نهار، بل هو أمر اختلفت حوله آراء علماء المسلمين قديماً وكل فريق له أدلته وبراهينه. فإذا كان هذا في قتال الحاكم، فكيف بالله عليك يكون مجرد الهتاف في المظاهرات السلمية ورفع اللافتات حرام؟! المغالطة الأخرى أنه قال إن المصريين لم يثوروا إلا من أجل الديمقراطية والتي تعني عندهم الحكم بغير ما أنزل الله. وهذا يدل على أن الرجل لم يتابع انتفاضة المصريين في مهدها ولا في عنفوانها، ربما كان يشاهد ثورة أخرى والله أعلم! لأن كل إنسان نزيه يعرف تماماً أن الثورة رفعت شعارها الصريح منذ اليوم الأول: كرامة، حرية، عدالة اجتماعية. فهل هذه المطالب مخالفة لشريعة الله العادلة؟ لقد وصل المصريون لمرحلة خطيرة من الذل والهوان وانتهاك الحريات وانتشار القهر والظلم والاعتقال والتعذيب واستباحة الدماء ونهب الثروات وسرقة الأوطان وتخريب التعليم واضطهاد المتدينين ... إلخ ثم زاد عليه قتل المتظاهرين ودهسهم بالسيارات وفقء عيونهم! وهنا صاغ الثوار مطالبهم المحددة: تنحي الرئيس لما جناه على مصر والمصريين، وحل مجلسي الشعب والشورى المزورين، والقصاص من القتلة، ومحاكمة الفاسدين الذين خربوا البلد. وهذا يجرنا للمغالطة الأخرى وهي أن هذه الثورة ليس لها علاقة بالشريعة. وهنا أقول: وهل محاسبة الفاسدين ليست من الشرع؟ وهل رد الحقوق إلى أهلها ليست من الشرع؟ وهل الأخذ على يد الظالم ليست من الشرع؟ وهل تطبيق الحريات العامة ليست من الشرع؟ ألم يقل الفاروق عمر بن الخطاب في القصة الشهيرة مع عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ وهل إعطاء الأقباط حقهم في الحرية الدينية والحفاظ على كنائسهم ليست من الشرع؟ وهل الإصلاح في الأرض بعد فسادها ليست من الشرع؟ وهل إقامة العدل بين الناس ليست من الشرع؟ وهل نصرة المظلومين والمستضعفين ليست من الشرع؟ فإذا كان كل هذا ليس من الشرع، فعن أي شرع نتحدث؟ وما هو الإسلام الذي نؤمن به إذن؟ هذا يقودنا إلى قضية الشهداء الذين قتلهم النظام في الثورة، فالخميس يقول: هؤلاء خرجوا من أجل الدنيا، فكيف يكونون شهداء؟ كبرت كلمة والله! الشباب الذين هبوا لمواجهة الظلم والدفاع عن حقوقهم المسلوبة وقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر فقتلوا ... ليسوا شهداء؟! فماذا هم إذن؟ هنا سكت الخميس لإن مقصد كلامه مفهوم وليست هناك حاجة للإفصاح: الثورة المصرية كانت من أجل الدنيا وهي خروج على الحاكم، وبالتالي فالمقتول فيها هو خارج عن الجماعة نسأل الله أن يغفر له! ألم يبلغه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"؟ فجعل الذين يجاهرون بالحق في وجه الحاكم ويوقفونه على أخطائه في عداد المجاهدين! فكيف لا يكون قتلى المجاهدين شهداء؟ هؤلاء انتفضوا لأنهم مظلومون، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، بل وكانوا يؤدون الصلوات الخمس في مظاهراتهم. هؤلاء خرجوا دفاعاً عن حقهم وحق أهلهم وحق أبناء وطنهم، وقد قال النبي الكريم: "من قتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد". إذا كان بعض الشيوخ الخليجيين يجدون حرجاً في مديح الثورة المصرية والإشادة بها لأن ذلك قد يُغضب حكامهم، فالأولى بهم أن يصمتوا فيَسلموا. أما الحديث عنها بأنها ليست على شرع الله ولم تقم إلا من أجل الدنيا والاستيلاء على كرسي الحكم، وكأن مصالح العباد وصيانة حقوقهم ليست من صميم الشرع (!) فما أسطح هذا التفكير وما أبعده عن مقاصد الشريعة العظيمة وما أبشعه في نفوس المصريين.