جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا.. صرح أكاديمي متكامل ورؤية تعليمية عالمية    "التربية السليمة للأطفال وحقوق الطفل وذوى الإعاقة " فى ندوة بالشرقية    مدبولى: وجهت بالمتابعة المستمرة لمواجهة أى زيادات غير مبررة فى الأسعار    الرقابة المالية: مد وقف تلقي طلبات التأسيس لنشاطي التمويل الاستهلاكي ومتناهي الصغر لمدة عام    نائب محافظ القاهرة يوجه بتكثيف حملات النظافة على شوارع روض الفرج والساحل    مصر تستضيف مؤتمر تسليم وتسلم قيادة افريكسم بنك    زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب قبالة مدينة كوشيرو اليابانية    نتنياهو: شراكتنا مع واشنطن غير مسبوقة.. وتحالفنا خلق فرصا للسلام والأمن    بوتين يطلع عبر الفيديو على تدريبات للقوات النووية الاستراتيجية    محافظ شمال سيناء: معبر رفح من الجانب المصري لم يغلق منذ 7 أكتوبر 2023    مصر تتصدر قوائم المرشحين لجوائز كاف 2025.. محمد صلاح ينافس حكيمي على ملك القارة.. حسام حسن مرشح لجائزة أفضل مدرب.. إمام عاشور ينافس إبراهيم عادل وثلاثي بيراميدز على لقب أفضل لاعب محلي.. والشناوي لأحسن حارس    شاهد غرفة ملابس الأهلي قبل مباراة الاتحاد السكندري في الدوري    رفض طعن برشلونة على طرد فليك وغيابه عن الكلاسيكو أمام ريال مدريد    مشاجرة عنيفة بسبب "تروسيكل سريع".. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة الشرقية    فئات ممنوعة من أداء مناسك الحج    حملات مرورية مكثفة بمنطقة المساكن والجامعة بقنا بعد شكوى الطلاب والأهالى    هدم جدار المسجد لسرقة مكتب بريد بالإسكندرية.. اعترافات صادمة "صور"    مهرجان الموسيقي العربية.. مى فاروق على مسرح النافورة والحجار فى سيد درويش    زاهي حواس: المتحف المصري الكبير إنجاز علمي جبار .. وافتتاحه سيعزز السياحة    النجم التركي كان أورجانجي أوغلو: مستعد للعمل في الدراما المصرية والعربية    محمد عبده يقبل يد المايسترو هاني فرحات : "ونكيد العوازل بقي "    دبلوماسي أوكرانى: ترامب كان مستعدًا لتنازلات لأجل السلام وبوتين رفض    تعليم المنوفية: فحص طبى لجميع طلاب مدرسة بالباجور عقب إصابة 24 بالجدرى المائى    505 جهة وشركة تتعاقد بمنظومة التأمين الصحى الشامل على مستوى الجمهورية    وزارة العمل تعقد اختبارات للمتقدمين ل 8 مهن في دولة الإمارات    «تعليم الغربية» تتفقد انتظام الدراسة وتوافر وسائل الأمن والسلامة في عدة مدارس    الأورومتوسطي: لم ينجُ أحد بغزة من الإبادة.. وإسرائيل قتلت وأصابت واعتقلت 12% من سكان القطاع    اليوم.. ملك المغرب يستضيف منتخب الشباب بعد التتويج بكأس العالم    المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات: ندعو لوقف فوري لإطلاق النار في السودان    «الرعاية الصحية» : تقنية حديثة لعلاج دوالي الساقين دون جراحة بمستشفى السلام التخصصي ببورسعيد    إحالة أوراق سائق للمفتي بعد اتهامه بقتل مزارع وتزعُّم عصابة للإتجار بالمخدرات في القليوبية    القبض على المتهم بقتل طليقته أمام مدرسة في مدينة السادات بالمنوفية    نائب وزير الإسكان يتفقد محطة معالجة الصرف الصحي بالجبل الأصفر بمرحلتيها الأولى والثانية    للقضاء على السحابة السوداء.. تجميع 408 آلاف طن قش أرز منذ بداية الحصاد    لبنى عبد الله: أمير عبد الحميد رحب بالاستمرار في الأهلى من موقع الرجل الثالث    تأهل كلية الاستزراع المائي بالعريش لجائزة مصر للتميز الحكومي    "الأونروا": يجب فتح جميع المعابر إلى غزة مع ضرورة أن تكون المساعدات غير مقيدة    الأقصر تتحرك لدعم موسم سياحي استثنائي.. لقاء موسع بمشاركة خبراء ومختصين    بيحبوا يكسروا الروتين.. 4 أبراج لا تخشى المخاطرة وتحب انتهاز الفرص    وزير الإسكان: تخصيص 408 قطع أراضٍ للمواطنين بمنطقة الرابية    البترول: مصر تُصدر 150 ألف متر مكعب من الغاز المسال إلى تركيا لصالح توتال إنيرجيز    على خطى «لصوص لكن ظرفاء».. اعترافات المتهمين ب«سرقة ذهب» من فيلا التجمع    نائب وزير الصحة يتفقد جاهزية الخدمات الطبية والطوارئ بميناء رفح البري    بينها الأسماك الدهنية وممارسة الرياضة.. أطعمة صحية للمحافظة على القلب    منتخب مصر للسيدات يختتم استعداداته لمواجهة غانا في تصفيات أمم إفريقيا    مفتي الجمهورية: الله تولى بنفسه منصب الإفتاء وجعله من وظائف النبوة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاربعاء 22-10-2025 في محافظة الأقصر    موعد مباراة بايرن ميونخ وكلوب بروج فى دوري الأبطال والقنوات الناقلة    الغندور: عبدالقادر يرفض الانتقال للزمالك ويقرر تجديد عقده مع الأهلي    افتتاح ساحة جامعة قنا    منال عوض: نسعى لحل مشاكل المواطنين والتواجد المستمر على أرض الواقع    الصحة وصندوق مكافحة الإدمان يفتتحان قسما جديدا للحجز الإلزامي بمستشفى إمبابة    حكم القيام بإثبات الحضور للزميل الغائب عن العمل.. الإفتاء تجيب    مجلس الكنائس العالمي يشارك في احتفال الكنيسة المصلحة بمرور 150 عامًا على تأسيسها    سماء الفرج    موعد شهر رمضان المبارك 1447 هجريًا والأيام المتبقية    حين يتأخر الجواب: لماذا لا يُستجاب الدعاء أحيانًا؟    إنها مصر السلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلم نمرة واحد
نشر في المصري اليوم يوم 10 - 05 - 2010

تخرجت فى جامعة أسيوط قبل منتصف الستينيات من القرن الماضى وعينت معيدا بها، وبعد حصولى على درجة الماجستير وبداية عملى فى الدكتوراه قررت الزواج.. كان ذلك قبل نهاية الستينيات حيث كانت لافتات «شقة للإيجار» تتصدر بوفرة الكثير من العمارات.. لم أجد صعوبة فى اختيار شقة معقولة فى حى مناسب.. كان إيجارها ثمانية جنيهات، لكن الراتب لم يكن يتجاوز ثلاثين جنيها، أنفق مما تبقى منه حوالى عشرة جنيهات أخرى على الكتب الخاصة والعامة.. بحثت عن فتاة ترضى بهذه الحياة بين تلميذاتى النجيبات، وبعد لأى، وفقنى الله، ووجدت بغيتى ومضى الأمر سهلا ميسورا حتى نهايته..
وقد قال بعض أصحابنا: شيئان ييسر الله فيهما إذا صدقت النوايا، الزواج والحج.. لم يكن لدينا أثاث بالمعنى المتعارف عليه، ولا توجد ثلاجة أو أو بوتاجاز أو غسالة أو تلفاز أو نجف أو ستائر أو سجاد أو أى شىء مما يحرص عليه الشباب فى بداية حياتهم آنذاك.. باختصار، كان هيكل الشقة موجودا،
أما الحشو فكان مفقودا.. كنا نذوق اللحم مرة واحدة كل أسبوع أو أسبوعين، وكنا نعتبر ذلك فضلا من الله ونعمة.. نذهب إلى الجامعة ونعود منها سيرا على الأقدام مسافة لا تقل عن حوالى سبعة كيلومترات، وكانت الصحة على خير ما يرام، لا سكر ولا ضغط.. ولا سمنة.. لم تكن زوجتى تشكو أو تضيق أو تتبرم، فقد رزقها الله تعالى القناعة والرضا، ومع ذلك لم تتوقف أبدا عن الحلم، خاصة أنه لا يكلف شيئا.. لم يكن زهدنا اختيارا، بل كان أمرا مفروضا..
حين نسافر فى بداية عطلة الصيف من كل عام، كنا نجذب باب الشقة خلفنا ونمضى، إذ لم يكن بها ما نقلق أو نخاف عليه ولو حدث - لا قدر الله - أن داهم اللصوص الشقة فلن يجدوا شيئا يسرقونه، بل ربما تركوا لنا شيئا من باب الشفقة، فاللصوص فى الأيام الخوالى غير اللصوص فى هذا الزمن الصعب.
فى بداية السبعينيات اشترينا ثلاجة بالتقسيط غير المريح، رغم أنى لا أؤمن بالتقسيط حتى وإن كان مريحا، لكن للضرورة، كما يقولون، أحكام، والضرورات - كما هو معروف عند أهل الفقه - تبيح المحظورات.. كنا سعداء بها أيما سعادة، فها قد حانت الفرصة فى هذا الجو القاتل أن نشرب كوب ماء بارد..
كانت الشقة فى الطابق الرابع والأخير، والشمس الحارقة فى صيف أسيوط تضرب فينا من كل اتجاه، ولا تغيب عنا إلا عند الغروب.. كان السلم مرتفعا وضيقا كالحلزون، تماما كسلم المآذن، ولا يوجد مصعد.. أتذكر جيدا ذلك الرجل المسكين الذى حمل لنا الثلاجة وصعد بها إلى شقتنا، إذ إنه بعد أن وضعها عن ظهره، قال وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة: تعرف يا بيه.. قلت: ماذا؟
قال: لقد صعدت سلالم كثيرة، لكن هذا السلم نمرة واحد.. حين أردنا السفر فى عطلة الصيف كالمعتاد بدأنا نفكر.. قالت زوجتى: هل نغلق باب الشقة خلفنا دون إحكام كما كنا نفعل دائما، أم علينا أن نتخذ بعض الاستحكامات حفاظا على الثلاجة؟
ضحكت وقلت: هكذا الإنسان.. يقلق من أجل لعاعة.. ماذا سنصنع بعد أن يمن علينا ربنا بالضروريات والتحسينيات والكماليات وما أشبه؟ المهم أن الحياة مضت هادئة وادعة، بحلوها ومرها، ورزقنا الله البنات والبنين ونعما كثيرة لا تعد ولا تحصى، ولله الفضل والمنة.. لكننا بقينا على حالة الزهد لا نفارقها ولا تفارقنا، إلا لماما..
أنا هنا لا أتحدث بطبيعة الحال عن عموم الناس، فهؤلاء من حقهم أن يعيشوا حياتهم، وأن ينعموا بطيبات الحياة، وأن تكون لهم آمالهم وأحلامهم، وأن يحققوا ما تصبو إليه نفوسهم فى الثروة أو السلطة، طالما كانت إمكاناتهم تسمح بذلك، ولا حرج على فضل الله..
أنا أتحدث عن الدعاة والمصلحين، هؤلاء الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن الحق والعدل والحرية، خاصة فى هذا المناخ الردىء والسيئ الذى يتعرضون فيه لكل أنواع القمع والبطش والتنكيل.. هؤلاء يجب عليهم، طواعية واختيارا وليس قسرا وجبرا، أن يتخففوا من متاع الدنيا، أو أن يأخذوا من الدنيا ما يقيم أودهم، وألا يعيشوا حياة الدعة والراحة، فالطريق شاق وطويل والمرتقى وعر وصعب..
هؤلاء فى حاجة ماسة إلى زاد ومخزون لا ينضب معينه من الأخلاق والإيمان المتجدد، حتى تظل الروح فى وهجها وألقها الدائم، ولا يتأتى هذا إلا بالحياة مع الله والارتباط بالآخرة، وهذا باب واسع وكبير وبه تفصيلات كثيرة ليس هنا مقام تناولها.. لكن ما أريد التأكيد عليه هو أن هذا هو درب الأنبياء والرسل الكرام على مدار التاريخ،
وهو أعظم الدروب وأفضلها على الإطلاق، وهو لم يكن دربا سهلا فى أى مرحلة من مراحله، وإنما كان دائما وأبدا درب المعاناة والآلام.. وهكذا الدعاة والمصلحون فى كل عصر ومصر.. هم لا يبحثون عن المعاناة والآلام، لكنها تفرض عليهم فرضا على أيدى الطغاة والمستبدين، فإما أن يثبتوا فى طريقهم وعلى قيمهم ومبادئهم، غير عابئين بما يحدث لهم حتى ولو قضوا،
وإما أن يتركوا مهمتهم وتضيع دعوتهم وتذهب جهودهم أدراج الرياح، أو يأتى غيرهم من أصحاب الهمم العالية والإرادة الصلبة والعزائم القوية، ممن يتميزون برصيد أخلاقى وروحى يتسامى فوق المادة وجواذب الطين.. بدون هذا الرصيد، لا أمل، وسوف نظل نراوح مكاننا، بل إننا فى الواقع سوف نتراجع خطوات إلى الوراء.. إن الأخلاق هى أساس حياة الأمم وسبيلها إلى العظمة والمجد.. يقول شوقى فى أعظم وأبلغ روائعه:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقد أكد هذا المعنى العبقرى فى كثير من قصائده، ولولا ضيق المكان لأفضنا زيادة فى البيان.. ولأن الطغاة والمستبدين يعلمون أن هذا الرصيد الأخلاقى والروحى هو مصدر القوة والعزة، فهم يحاولون النيل منه بشتى الوسائل والأساليب، تارة بالترهيب وتارة أخرى بالترغيب، أو ما يعرف بسيف المعز وذهبه، أو بسياسة العصا والجزرة.. هذه هى ساحة المعركة الحقيقية، إن خسرناها فقد خسرنا كل شىء، وبقدر الثبات والصمود والمقاومة،
وعدم التنازل عن القيم والمبادئ، بقدر ما تحسم المعركة فى النهاية لصالح الدعاة والمصلحين، وإن طال الوقت.. هذه هى سنة الدعوات.. إن الطغاة والمستبدين، وهم يخوضون هذه المعركة، إنما يستهلكون الوقت والجهد فى حرمان الوطن من طاقات أخلص أبنائه.. ليس هذا فقط وإنما هم يزرعون ويحصدون، أو يتركون، إرثا متناميا من الحقد والبغض والكراهية والتعصب.. لذا لست مبالغا حين أقول إن الطغاة والمستبدين هم سبب نكبة البلاد وتخلفها، بل هم العقبة الكؤود أمام النهضة والرقى والتقدم.. ولست بحال مع القائلين بالمستبد العادل، فالظلم والعدل نقيضان لا يجتمعان.
إن حياة الدعاة والمصلحين لها معالمها، ولمن يريد أن يسير على الدرب أن يتبينها وأن يسبر غورها وأن يعلم عن يقين ثقل تبعاتها وتكاليفها.. ذكر الأستاذ عمر التلمسانى - رحمه الله - أنه زار الأستاذ الإمام البنا فى بيته، فوجده بيتا بسيطا للغاية: مكتب متواضع، وكراسى من الجريد، ومكتبة عامرة بكل أنواع الثقافات.. حينما دعاه الإمام للجلوس، كأنما استنكف الأستاذ التلمسانى وهو الرجل الثرى المرفه أن يجلس على كرسى هذه صفته،
فأخرج من جيب جاكتته منديل «الإسكريبيز» وافترشه على قاعدة الكرسى قبل الجلوس وحانت منه التفاتة للأستاذ البنا فوجده يبتسم ابتسامة حانية، لم يدرك الأستاذ التلمسانى مغزاها إلا بعد وقت طويل.. وهو يذوق مرارة الحرمان من النوم والراحة والماء والطعام.. وهو ينال ألوانا من التعذيب النفسى والجسدى لا يطيقه بشر ولا يتحمله إنسان..
وقد حكى لنا الدكتور أحمد الملط - رحمه الله - أنه التقى الإمام البنا ليتحدث معه فى شأن المتطوعين للجهاد على أرض فلسطين الحبيبة، وكان الدكتور أحمد قد زين جيب جاكتته بمنديل على هيئة الأهرامات الثلاثة، وإذ بالأستاذ البنا وهو يستمع إليه يمد يده إلى المنديل البارز ويدسه بأصابعه داخل الجيب، وكأنه يقول له إن الحديث عن الجهاد والمجاهدين، وهذا الوقت العصيب، الذى تستباح فيه فلسطين من قبل الصهاينة، لا يناسبه ولا يليق به مثل هذه المظاهر.
أُثِر عن الأستاذ البنا أنه كان لا يسافر فى القطار إلا بالدرجة الثالثة، ولم يكن يفعل ذلك إلا لأنه لا توجد درجة رابعة! وكان من عزيمته - رحمه الله - قيامه برحلاته الدعوية إلى أسوان فى الصيف، وإلى وجه بحرى فى فصل الشتاء.. إنها تربية عالية للنفس ومحاولة لكبح جماحها، حتى تكون قادرة على التحدى والمقاومة.. يقول الشاعر:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
بالطبع، لا يستطيع هذا ولا هو مطلوب من كل الأفراد، حيث إن كل واحد منا له طاقته ودرجة تحمله، لكن كما يقال: تشبهوا بالقوم إن لم تكونوا مثلهم، وكما يقول الحق جل وعلا: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين» ( العنكبوت:69).
أنا لا أدعو إلى قطيعة مع الدنيا، لكنى أريد أن نعطيها حظها ونصيبها، أو بمعنى آخر أن نأخذ حظنا ونصيبنا منها وأن نستمتع بها فى عزة وكرامة، لا أن نقع فى هواها ونلهث خلفها، فتستخدمنا أسوأ استخدام، وتطأنا بقدميها ونعليها دون أدنى شفقة أو رحمة، فنفقد بذلك كل جليل ونبيل.. لذا أقول إنه بجانب الرصيد الأخلاقى والروحى نحن كأفراد، فى حاجة إلى بعض المال والجاه والسلطان.. المال له منافعه الكثيرة التى لا تخفى، إذ به يتحقق الاستمتاع بطيبات الحياة، قضاء حوائجنا وحوائج أهلنا وأولادنا، الاستغناء عن الناس، الإنفاق فى سبيل الله والوطن، تركه لورثتنا من بعدنا..
وأما الجاه فهو ملك القلوب، ولا تستقيم الحياة دونه لأن الإنسان بطبيعته كيان اجتماعى لا ينفك عمن حوله، هو فى حاجة إليهم كما أنهم فى حاجة إليه، والقول المأثور عن بعض الصوفية «إن الاستئناس بالناس علامة الإفلاس» قول فيه نظر، وقد يكون المقصود به هو ألا يكون الاستئناس بالناس عوضا عن الاستئناس بالله سبحانه..
والسبيل إلى الجاه له وجوهه الكثيرة والمتعددة، منها على سبيل المثال: العلم، حسن الخلق، الصدق، التواضع، اللين، الرفق، الرحمة، الرأفة، السماحة، الصفح، العفو، الإحسان إلى الناس، عدم النظر إلى ما فى أيديهم، مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، الدفاع عن حقوقهم، تفريج كربهم، الخفة إلى نجدتهم، وما إلى غير ذلك..
وأما السلطان فهو لازم وضرورى حتى لا يجترئ علينا السفلة والحمقى والجهلة، وبالتالى نتمكن من العيش فى عزة وكرامة.. وقد يكون السلطان متمثلا فى موقع سياسى، أو قانونى، أو تنفيذى، أو اقتصادى.. وقد وجدت بعد طول تأمل أنه ليس هناك فى هذا الصدد ما هو أفضل من مهابة الله، التى تتحقق بالتقوى والورع، فذلك يورث الإنسان مكانة ومهابة فى قلوب الخلق.. رزقنا الله وإياك السيادة والسعادة فى الدنيا والآخرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.