انزوت نفيسة هانم في قصرها بالأزبكية، بعد أن دانت الأحوال للباشا الجديد، عدو المماليك الدموي الخبيث محمد على، الذي سعى بكل الوسائل العسكرية والمصادرات المالية والعقارية للقضاء على نفوذ هذه الطبقة المناوئة لحلمه بتأسيس دولته الدائمة في مصر، واتبعت نفيسة هانم في تلك الفترة سياسة الابتعاد عن طريق السلطة، والانسحاب من المواجهات، خاصة وأن أمراء المماليك تنازعوا فيما بينهم وتفرق شملهم، ولم يتفقوا على أمير واحد أو كلمة واحدة، بينما استخدم محمد على سياسة العصا والجزرة معهم، فهو يقتل العصاة، وينكل بالمعارضين، ويبالغ في احتواء المؤيدين والإغداق عليهم بالمناصب والاقطاعيات. وطوال السنوات الخمس الأولى من ولايته ظلت بيوت حريم المماليك مستهدفةً من العسكر وعصابات السلب والنهب التي استخدمها أنصار محمد على لبث الرعب في نفوس عائلات المماليك وعموم الأهالي على السواء. عملت نفيسة هانم بالقول الشائع: «الباب اللي يجيلك منه الريح.. سده واستريح»، فاجتنبت الحديث في شؤون السياسة والحكم، وتجنبت الصدام بكل ما يتعلق بالباشا ورجاله، واكتفت بمتابعة مجموعتها الخيرية والتجارية المكونة من خان وربع وسبيل يعلوه كتاب لتحفيظ القرآن في شارع القصبة العظمى قرب باب زويلة، ولكن في منتصف مايو 1809 انتشر في القاهرة خبرا عن قرب وصول أمينة هانم زوجة مجمد على باشا، وبصحبتها طفلها الصغير «اسماعيل»، فقد طابت الحياة في مصر لمحمد على وقادة جيشه وجنوده، فأرسلوا إلى بلادهم «قوله» يستدعون عائلاتهم للإقامة الدائمة، وعن ذلك يقول الجبرتي: «لما طابت لهم مصر واستوطنوها وسكنوها وتنعموا فيها أرسلوا إلى أهاليهم وأولادهم وأقاربهم بالحضور من بلدهم قوله إلى اسكندرية، فكانوا في كل وقت يأتون أفواجا أفواجا.. نساء ورجالا واطفالا، وكان خبر وصول أمينة هانم علامة جديدة على زوال دولة نفيسة هانم، فقد وصلها مرسال من القلعة ينبه عليها وعلى جميع النساء والخوندات وكل من كانت لها حصة في الالتزام لدى الدولة (التزام بأرض ومعاش تنفق منه) أن يركبن بعائلاتهن ويذهبن لاستقبال زوجة الباشا عند وصولها إلى ميناء، واعتذرت الست نفيسة متعللة بكبر عمرها ومرضها (كانت في الخامسة والستين تقريبا) وقالت للمرسال أنها لا تقدر على الحركة والخروج، وجاءها الرد بشكل عاجل برفض عذرها، فلم يقبلوا لها عذرا، فاضطرت للخروج مكسورة الإرادة لتجنب الصدام مع السلطة الجديدة ويحكي الجبرتي عن ذلك اليوم قائلا: فلما كان صبح ذلك اليوم اجتمع السواد الاعظم من النساء بساحل بولاق على الحمارة المكارية وهم ازيد من خمسمائة مكاري حتى ركبت زوجة الباشا وساروا معها إلى الازبكية وضربوا لوصولها وحلولها بمصر عدة مدافع كثيرة من القلعة والازبكية ثم وصلت الهدايا والتقادم واقبلت من كل ناحية الهدايا المختصة بالاولاد والمختصة بالنساء. بعد ذلك اليوم زاد انزواء نفيسة هانم أكثر داخل منزلها، خاصة بعد أن ضعفت مواردها ولم يعد معها إلا القليل من المماليك والجواري كخدم بائسين لايستطيعون الجفاع عن أنفسهم، كما أن الباشا قد جردها من معظم ممتلكاتها فيما عدا مجموعتها المعمارية التي تبقى معظمها كآثار حتى اليوم، و«أطيان الأوسية» التي تكفي بالكاد للإنفاق على معيشتها، وبعد عامين من ذلك اليوم الذي وصلت فيه «الهانم الجديدة» وقعت مذبحة المماليك لتكسر ما تبقى من قدرة السيدة العجوز على مقاومة سلطة تكتسح في طريقها كل شئ، وككما يقولون أن الغنسان لايموت مرة واحدة، فقد كانت كل هذه الانكسارات المتوالية محطات للموت التدريجي للست نفيسة، حتى أنها لم تخرج في أول وأخطر مظاهرة نسائية لزوجات العسكر المملوكي والحريم المسجل أسمائهن ضمن المستحقين للالتزام (المعاش) ففي 25 فبراير 1814، اتجهت مظاهرة الاحتجاج في حشد نسائي كبير نحو الجامع الأزهر، ويصف الجبرتي المشهد قائلا: صرخوا في وجوه المشايخ والفقهاء، وأبطلوا الدروس، وطالبوا بالتدخل لدى الباشا لإصلاح أحوالهم، وأعلنوا عن استمرار التظاهر على هذا المنوال في كل يوم؛ اعتقادًا منهن أنّه بهذه الطريقة يمكن أن يتمّ الإفراج عن حصصهن في الالتزام« لكن الشمس التي غربت عن حريم المماليك كانت تفرض الليل على هذه الطبقة وتضئ قي مكان آخر، حيث أصبح بيت أمينة هانم بالأزبكية هو مصدر القوة وقبلة الأثرياء، وملتقى الولاء والطاعة والتقرب بالهدايا، وكان محمد على يخترع المناسبات لتلقى الهدايا، ليستكمل المصادرات بشكل طوعي، فمثلا قبيل حفل عقد قران ابنة الباشا على الدفتردار في سبتمبر 1814، توافدت نساء البكوات على «أمينة هانم» زوجة محمد على باشا، يقدّمن لها «النقوط والتقادم والهدايا» ويشاركنها طقوس الاحتفال الكبير بزفاف ابنتها، ويقول الجبرتي بصراحة أنّ تعدّد مثل هذه المناسبات كان يتسبّب في حرج نساء المماليك، فما يقدّمنه من المجوهرات وأغلى الحلي المذهّب والمقصبات مرتفعة الثمن كان يُجهدهن، بل ويُوقعهن في الدين؛ إذ لم تكن زوجة الباشا لتقبل هديّةً متواضعةً، وكانت تردّ مثل تلك الهدايا قائلة «هذا مقام فلانة التي كانت بنت أمير مصر أو زوجته فتضطرّ»المسكينة«إلى تقديم هدية أكثر قيمة وكلفة»مع ما يلحقها من كسر الخاطر وانكساف البال«.. حسب تعبير الجبرتي وهكذا كان موت نفيسه هانم في منتصف أبريل سنة 1816 جملة الختام في رواية التاريخ المملوكي كله، ولم يكن مجرد يوما ماتت فيه جارية مملوكة ارتبطت حيتها الشخصية بالتطورات السياسية والاجتماعية لمصر على مدى نصف قرن، لكنها كانت نهاية مرحلة طويلة في تاريخ مصر. [email protected] مقالات متعلقة * عزلة نفيسة (شخصيات تبحث عن مؤلف 13) * نفيسة ومحمد على (شخصيات تبحث عن مؤلف 12) * 30 يونيو... ماذا تبقى الآن؟ اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة