فتوى من ممرض ليس لها أى سند طبى كانت سببا فى إجراء جراحة لم يكن لها أى داع أفقدته بصره وهو فى السادسة من عمره، وعلى مدار 71 عاما عاش الحاج أحمد عبدالله، فاقداً البصر، إلا أنه عاش بنور بصيرة القرآن الكريم الذى حفظه عن ظهر قلب، وهو فى نفس العمر الذى فقد فيه نور الكريمتين. ثلاث أريكات خشبية يجلس على أوسطها، وحوله عشرات الطلبة من أهالى قريته، الذين اعتادوا التردد عليه لحفظ القرآن. بتلاوة تجبر آذانك على الإصغاء إليها يتلو الحاج أحمد آيات الكتاب الكريم على أسماع الصغار، ويرددونها وراءه بنفس التجويد الذى نطق به، ليس هذا فحسب بل يبادر الشيخ الكبير ببذل مجهود مضاعف فى أن يردد مع الطلبة ما ألقاه إليهم، كى يضمن سلامة نطقهم لحروف الكتاب المبين. جلباب وعمامة وشال وكوفية زى اعتاد الحاج «أحمد» استقبال الطلبة به، حفاظا على هيبة المحفظ، رغم أن كلهم من أبناء قريته «بنى عمران» بمحافظة المنيا ويعرفونه لصيته الكبير بينهم إلا أنه يرى أن لحامل كتاب الله وقارا، ولابد أن يكون على أكمل صورة عنه. فى عام 1956 حصل الحاج «أحمد» على الإجازة بحفظ القرآن، بعد أن ختمه فى الصغر على يد شيخ وصفه بأنه كان «غاية فى القسوة» فى معاملة الطلبة، مضيفا: «لدرجة أنى هربت من البلد كلها وسيبت أهلى علشان ما أروحش عنده الكتاب من كتر الضرب». منهج فى التدريس لم يعد يصلح إطلاقا فى التعامل مع الطلبة من الجيل الحالى، كما أن القسوة التى عاشها الحاج «أحمد» جعلته يرفض حتى الحديث عنها، لأنها تتنافى مع مبادئ الرحمة، التى زرعها الإسلام، وحملتها آيات القرآن، على حد قوله، بل يسعى طوال حصصه أثناء تدريسه للطلبة على التواضع واللين فى التعامل مع الآخرين، وكثيرا ما يردد عليهم قول الرسول الكريم بكونه بُعث بالسيف واللين ووجد أن اللين أشد قطعا من السيف، وأن استخدام اللين خصيصا فى تحفيظ القرآن يأتى بنتيجة مضاعفة فى التركيز والاستيعاب مع الطلبة. يعمل الحاج «أحمد» فى كُتابه يوميا من الثامنة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر، عدا يوم الجمعة، يستقبل خلالها عشرات الطلبة، الذين لم يجبر طالب فيهم على دفع قيمة مادية معينة، نظير تحفيظه القرآن: «الأسرة الغنية فى القرية بتدفع للعيل 5 جنيه، والفقيرة على قد مقدرتها، ومنهم اللى ما بيدفعش خالص، ولما بلاقى عيل شاطر وأهله فقراء أنا اللى بديه فلوس علشان أشجعه ييجى، وعلشان كده تلاقينى دائما ماشى بالفكة على شوية حلويات». كان يحصل محفظ القرآن على مكافأة قدرها 60 جنيهاً كل أربعة شهور، صدر قرار بمنعها، ووقفها دون أى أسباب، وعنها يقول الحاج أحمد: «كل اللى اتقال لنا وقتها اللى يحفظ القرآن كفاية عليه الثواب». قد لا يكون لثواب حفظ القرآن عائد مادى لدى وزارة الأوقاف إلا أنه له ثواب أكبر لا يقدر بمال دفع الحاج «أحمد» رغم إصابته بالضرر إلى أن يسعى طيلة حياته لتعميق علاقته بالقرآن، حيث ألمّ بقواعد الإحكام والتجويد، والتحق بمعهد حفظ القراءات بمركز «ملاوى»، وعمل إماما وخطيبا لمسجد القرية، كل ذلك جعله يستحق نيل شهادات للتقدير، بخلاف الإجازة، كما كرمه فضيلة الإمام الأكبر «محمد سيد طنطاوى» فى تسعينيات القرن الماضى، وهو التكريم الذى يتذكر الحاج «أحمد» أحداثه قائلاً: «أخذت وقتها شهادة تقدير ومكافأة 100 جنيه، بقت 94 بعد الضرائب، رغم أن سفرى من البلد للقاهرة والإقامة فى فندق بصحبة أحد أقاربى كلفنى وقتها أكثر من قيمة المكافأة، لكن فضل الله دائما أكبر على الإنسان».
