ماذا لو أتيح لصحفى - قومى أو حزبى أو مستقل - أن يجرى حوارا مطولا (فى لحظة كالتى نعيشها) مع الرئيس المخلوع، أو مع وريثه الأكثر «مخلوعية»، أو حتى مع أحد دهاقنة نظامه البائد.. هل سيستجيب هذا الصحفى لنداء الواجب، ويرضخ لشهوته المهنية، ويهرول - حاملا عدته وعتاده - إلى شرم الشيخ.. أم ينتصر لأحكام مليونيات التحرير، ويأبى على نفسه التورط فى حماقة قد تحشره فى زمرة المعادين للثورة؟ الذى أعرفه وأفهمه أن مهنة الصحافة تجاوزت هذا النوع من الأسئلة. ف«شرعية» الصحفى لم تعد تقاس أو تتأكد بمدى قدرته على تغليب مسؤوليته المهنية فحسب، بل بحرصه أيضا على تحييد أو مصادرة انتماءاته السياسية والاجتماعية والفكرية (والأخلاقية أحيانا) أثناء عمله. وبهذا المعنى يستطيع مثلا أن يجرى حوارا مع سياسى فاسد أو سفاح أو لص أو أى خارج على القانون دون أن يكون طرفا فيما يمكن أن يثيره مثل هذا الحوار من جدل. بالعكس.. ربما يصبح واجبا علينا أن نخلع قبعاتنا تقديرا لهذا الصحفى على تلك «الخبطة» أو هذا «السبق». وقد وجدت نفسى فى الأيام القليلة الماضية أمام «جدل ما» بشأن المسؤولية المهنية للصحفى، وذلك فى أعقاب حوار من ثلاث حلقات نشرته «المصرى اليوم» وأجراه «محمود مسلم» - مدير التحرير ومسؤول الملف السياسى فى الجريدة - مع الدكتور أحمد فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب السابق، وأحد أهم أركان نظام حكم الرئيس المخلوع. لم يكن غريبا أن ينصب معظم الجدل الذى أثاره الحوار على ما قاله سرور، بغض النظر عما إذا كان صدقا أم ادعاء، أم مزيجا من كليهما. ولأن الحوار كشف عن الكيفية التى كانت تدار بها العملية السياسية خلال السنوات الست الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع، فقد أعقب نشره سيل من المقالات اقترب من الأربعين مقالا، فضلا عن مئات التعليقات على الموقع الإلكترونى للجريدة. وتراوحت حدة هذه المقالات والتعليقات بين النقد المفرط فى قسوته والتأسى الممزوج بالسخرية مما آلت إليه أحوالنا وأحوال بلدنا. غير أن هناك من كتب متجاهلا «شهادة» سرور رغم أهميتها، ومتجاهلا أيضا «شطارة» محمود مسلم، سواء فى انتقاء فريسته (إذا جاز التعبير) أو فى إدارته للحوار، وراح يصفى عقده الشخصية وينفث أحقاده على الجريدة وعلى «مسلم» شخصيا، آخذاً المحاوِر (بكسر الواو) بجريرة المحاوَر. ورغم استيائى، واستياء كثيرين، من فكرة أن يوضع «مسلم» فى موقف دفاعى لا يستحقه، فإن ثمة ملاحظات أرى أن من واجبى ذكرها هنا، لا بحكم صداقتنا، بل انتصاراً لما يمليه على ضميرى المهنى. أولا: النسبة الغالبة من المقالات والتعليقات الإلكترونية التى أعقبت نشر الحوار انصبت - كما أنف القول - على محتواه، ولم ينشغل أصحابها ب«من أجراه» و«لماذا» و«كيف». وحتى فى سياق تقييم جهد المحرر المحاور لم يزد الأمر عن وصفه ب«الزميل» أو «الصديق» أو «الصحفى القدير» أو «الصحفى المحترم»، فى حين أن هناك مقالات لم يأتِ له أصحابها على ذكر. وأظن أن حرص الصحفى على «إخفاء» نفسه لحساب «موضوعه» من الأمور التى تحسب له لا عليه. ثانيا: إخفاء الصحفى لشخصيته فى حال إجراء حوار لا يعنى أن يكون مجرد «جهاز تسجيل» يذهب إلى «مصدره» بورقة أسئلة ويعود بالإجابات دون تدخل منه، ف«حضور» الصحفى فى الحوار لابد أن يتحقق عبر اختياره لتلك الشخصية العامة دون غيرها، واختياره لتكتيكات وأسئلة - ذكية أو مستفزة - من شأنها توريط المصدر فى تقديم قراءة جديدة لموضوع الحوار، أو دفعه على الأقل إلى «حقل» معلومات وحقائق لم تكن متداولة. والحق أن أسئلة «مسلم» كانت تفضى، فى الغالب، إلى إصابة سرور بما يمكن أن يسمى «نزيف معلومات». أحيانا يكون السؤال قصيرا وبديهيا جدا: «ألا ترى أن مبارك أخطأ كثيراً؟»، وأحيانا يكون محرجا: «إذن.. نستطيع أن نقول إن أحمد عز هو من كان يدير المجلس فى الفترة الأخيرة؟».. «لماذا لم تعترض أو تستقيل أو تتخذ موقفا؟».. «هل كان كل همك أن تظل رئيسا للمجلس وفى مقابل ذلك تتركهم يفعلون ما يريدون؟».. إلخ. كل الأسئلة فى الحقيقة كانت تهدف إلى انتزاع «شهادة» من رجل يتربع منذ أكثر من عشرين عاما على أحد أهم مقاعد العمل السياسى فى مصر، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو ما يضفى على شغف «مسلم» بالمعلومات قيمة مهنية تتجاوز «الزهو» بالحصول عليها. ثالثا: بعد أيام قليلة من اندلاع الثورة حل أحمد عز ضيفا على قناة «العربية» وواجهته راندة أبوالعزم، مراسلة القناة، بما تيسر من اتهامات أنكرها - بطبيعة الحال - جملة وتفصيلا. وقد تحلق المشاهدون حول القناة، بمن فى ذلك نحن معشر الصحفيين، لكن أحداً منا لم يتهم «العربية» أو مراسلتها بخيانة الثورة أو العمالة لنظام مبارك.. وهى التهم التى كان من المؤكد أنها ستُلصق بأى فضائية مصرية لو تجاسرت وأجرت الحوار نفسه. من الواضح إذن أن المسألة لا تتعلق بكون «سرور» من رموز النظام البائد، ومن ثم فمكانه الطبيعى الآن وراء قضبان السجن لا أن تحوله الصحف إلى بطل أو نجم، بل تتعلق بأصداء ما يمكن اعتباره «حربا أهلية» فى بلاط صاحبة الجلالة، حيث تسعى بعض العناصر الصحفية الفاشلة، والتى لا تتكئ على إنجاز مهنى حقيقى، إلى تعويض فشلها من خلال التشكيك فى ذمم الآخرين المهنية والسياسية، أو التشكيك فى توجهات صحفهم، خاصة إذا كانت منافسة لتلك التى ينتمى إليها هؤلاء الفاشلون. ولم يعد خافيا أن «المصرى اليوم» أصبحت فى قلب هذه الحرب الأهلية. رابعا وأخيراً: أعرف زملاء يعملون «مندوبين» لوزارات وأجهزة ومؤسسات سياسية وحزبية واقتصادية لدى صحفهم.. وليس العكس، وهو ما يفتح الباب أمام فسادهم من ناحية، وانهيار قيم العمل فى هذه الصحف من ناحية أخرى، لكننى فى المقابل أعرف زملاء آخرين ينتمون إلى أحزاب سياسية، ومع ذلك استطاعوا أن يجعلوا من هذا الانتماء «رافدا مهنيا» يميزهم عن غيرهم من الصحفيين، دون أن يكون عبئاً على صحفهم أو على ضميرهم المهنى. ليس عيبا إذن أن يكون الصحفى - حتى - صديقا ل«مصدره».. المهم ألا ينبطح أمامه أو يتعالى عليه، وأن يظل حريصا دائما على «مسافة» بينهما.. وتلك ميزة «محمود مسلم».