داخل أحد مخازن العقارات الحديثة، افترشت إلهام ابنة الثالثة عشرة الأرض، وسط أكوام من حفاضات الأطفال والمنتجات الورقية، تلتقط الحفاضات لتعبئها داخل أكياس تحمل إحدى العلامات التجارية، يمر عليها شاب ثلاثينى بين الحين والآخر لمتابعة ما أنجزته، يتصبب عرقها بغزارة، فالمخزن رغم اتساع مساحته يخلو من فتحات تهوية، فيما عدا «مروحة سقف» واحدة، يحيطها العنكبوت ويبدو أنها مُعطلة، ثمانى ساعات تقضيها إلهام فى عملها لا تستطيع الخروج إلى الشارع خوفا من صاحب العمل الذى يغلق باب المخزن على الفتيات العاملات. داخل منطقة «باسوس» إحدى قرى محافظة القليوبية، تتلاحم مصانع « بير السلم» بها مع العقارات السكنية، فأغلب الأهالى خصصوا مخازن عقاراتهم فى إنتاج وبيع المنتجات الورقية، فما إن تطأ قدماك شوارعها إلا وترى عقارات ذات مساحات واسعة، وبوابات سوداء حديدية تُخفى خلفها العمالة من فتيات وشباب أغلبهم تحت السن القانونية، أما شوارعها فتتزاحم بأكياس حفاضات الأطفال والمناديل الورقية الرديئة، لعرض بضاعتهم على التجار الوافدين إليهم، فالقرية الصغيرة التى تعج بالحركة والنشاط طوال أيام الأسبوع فيما عدا يوم الجمعة، رفعت شعار «لا للبطالة.. نعم للصناعات المضروبة». امتلاك مصنع فى «باسوس» لإنتاج المنتجات الورقية ليس أمرًا صعباً، فهو لا يحتاج لاستخراج تراخيص من أى جهة حكومية، مجرد استئجار مخزن فى الدور الأرضى لأحد العقارات، وشراء عدة ماكينات بدائية لتقطيع «رول» الورق وتغليف الأكياس بعد تعبئة المنتجات الورقية، يضاف لهذا عمالة رخيصة من أبناء القرى المحيطة، لتصبح بعدها من أصحاب المصانع دون الحصول على سجل تجارى أو بطاقة ضريبية. فى رحلتها اليومية، تنحشر إلهام بجسدها الضئيل وسط ركاب السيارة نصف النقل، فى طريقها من قريتها ب«ميت نما» إلى عملها بمصنع حفاضات الأطفال ب«باسوس»، تقضى ثمانى ساعات طويلة واقفة على ساقين نحيلتين تفرز الحفاضات وتعبئها فى أكياس مقابل 25 جنيها، هى أجرة يومها، هى واحدة من مئات الشباب والفتيات العاملين فى مصانع المنتجات الورقية المنتشرة فى «باسوس». وقالت إلهام: «تعبئة الحفاضات داخل الأكياس أمر أكثر سهولة من التنظيف داخل المنازل، فأنا أشتغل فى تعبئة الحفاضات منذ عامين، وبنشتغل فى البالات بمعنى أن الحفاضات تأتى لنا فى أجولة كبيرة، ثم نقوم بتفريغها ثم تعبئتها فى أكياس تحمل ماركة إحدى الحفاضات المشهورة، ويقوم بشرائها أصحاب المحال بالجملة وبسعر أرخص من الموجود فى السوق». جولة صغيرة داخل ورش صناعة المنتجات الورقية فى «باسوس» تكشف لك عن افتقادها اشتراطات الأمن الصناعى، فلا يوجد أى طفايات حريق أو أجهزة وفتحات تهوية كافية، وهو ما ساعد على انتشار الروائح الكريهة التى تزكم الأنوف، لم ينكر محمد حسين، أحد أصحاب مصانع المناديل الورقية، أن أغلب المصانع والورش فى «باسوس» غير مرخصة، وأرجع ذلك إلى «الحكومة التى وضعت شروطا تعجيزية»، مشيرا إلى اشتراطات اتحاد الصناعات، إلى جانب فرض ضرائب وتأمينات اجتماعية يؤديها صاحب الورشة عن العمال، يرى أصحاب الورش أنها لا تلائم ميزانياتهم: «الحكومة تعاملنا كمستثمرين وليس أصحاب مشاريع صغيرة، فبدلا من تشجيعنا على الاستثمار ودفع عجلة الإنتاج، تحاربنا الحكومة وتفرض علينا ضرائب لا تتناسب مع حجم المبيعات، وهو ما دفعنا لبناء مشروعاتنا بعيدا عن أعين الحكومة». لا يقتصر الأمر فى «باسوس» على تحويل الدور الأرضى فى عقاراتها إلى ورش لصناعة المنتجات الورقية، وإنما تنتشر معارض هذه الورش بامتداد الطريق الرئيسى لها، مما يعرضها لخطر الحريق بسبب غياب وسائل الحماية، معرض «الإيمان» الذى يبيع جميع المنتجات الورقية يحتل الدور الأول من أحد العقارات يمكنك الوصول لبابه عبر سلم خشبى، المعرض الذى يضم عدة حجيرات ازدحمت عن آخرها بالبضاعة، الحاج فتحى صاحب المعرض لا يرى خطورة فى إقامة ورش ومعارض للمنتجات الورقية القابلة للاشتعال فى العقارات السكنية «طالما بناخد احتياطاتنا فى الابتعاد عن اشتعال النيران، يبقى إيه المانع»، مضيفا: «معظم الحرائق التى تحدث يكون سببها ماس كهربائى، لذلك نحرص على اتخاذ الاحتياطات اللازمة فى الورش لمنع وقوع الكوارث، فمعظم العاملين فتيات لا يدخنّ سجائر، ونقوم بتعيين حراسة على المخازن ليلا بصورة دورية، وأحتفظ بطفاية حريق فى الورشة لاستخدامها فى حالات الحريق لا قدر الله».
