لا تسير الثورات فى خطوط مستقيمة، إنما تسير فى خطوط متعرّجة، وثورة يناير ليست استثناء، فهى تَخمُد بارتفاع سقف التوقعات تارة، وتتصاعد مع ارتفاع سقف الإحباطات تارة أخرى، وبين التخميد والتصعيد تعيش الثورة حالة النشوة – نشوة الانتصار – إلى أن تصل إلى حالة الاستقرار، وتتميز «فترة النشوة» بارتفاع سقف المطالبات والآمال، بدايةً من المطالبة بالحرية المثالية سواء كانت سياسية أو اجتماعية، والديمقراطية الاستباقية التى تحقق السيادة الفعلية للشعب، والعدالة الاجتماعية المثالية، بالإضافة إلى المطالب الأساسية – مثل كل الثورات – ومنها المطالب الفئوية ومحاسبة المسؤولين عن الفساد والظلم والاستبداد، ورد المظالم، واسترداد الثروات المنهوبة من البلاد. وفترة «نشوة الثورة» هى فترة حرجة فى تاريخ الدولة، وتحتاج إلى إدارة حصيفة وذكية وسريعة، حتى لا تطول، فتصبح المطالب كأحلام اليقظة التى لا تتحقق، فتثور الإحباطات فى النفوس، ويترتب عليها التصعيد بعد الخمود، وفى فترة «نشوة الثورة» يرتفع ضجيج الأصوات، حتى تختلط فلا يستطيع الإنسان التمييز بينها، أو بين الخطأ والصواب، وفى وسط هذا الضجيج تتزايد فرص سوء الفهم، وسوء الإدراك، وسوء التقييم والتقدير، وربما التخوين، مما قد يترتب عليه اتخاذ قرارات عشوائية تضر بمصالح البلاد.. وأنا كنت أفضّل أن يدير هذه المرحلة مجلس رئاسى انتقالى، به واحد من العسكريين والباقى مدنيون، ولو تم ذلك لامتنعت أسباب الوقيعة بين الجيش والشعب.. على أى حال فقد سبق أن أجاز الشعب التكليف – غير الدستورى – الذى أصدره الرئيس السابق للمجلس العسكرى بإدارة البلاد، فأكسبه الشرعية الشعبية، وقد قَبِل المجلس هذا التكليف، وقَبِل أن يتحمل مسؤولية إدارة البلاد، وسواء كان ذلك برغبته أو دونها، فإنه أراد أن يكون منفرداً، وأصبح مُطالَباً وحده بتلبية طموح الجماهير وآمالها، ومسؤولاً عن تجنيبها ثورة الإحباطات المتزايدة، التى قد تنتهى بتصعيد غير مأمون نحن فى غنى عنه فى هذه الظروف، وأنا أعتقد أن إجراء حوار وطنى موسع فى طول البلاد وعرضها، من خلال الجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية والحركات الحقوقية والنوادى الاجتماعية والجامعات والمعاهد، سوف يكون له أثر عظيم فى امتصاص ثورة الإحباطات لدى الجماهير، وهو فى ذات الوقت سوف يؤكد رفع الوصاية عن المواطنين ويجعلهم يشتركون فى تحديد شكل دولتهم المقبلة، فى وقت هم مقبلون فيه على وضع دستور جديد بعد أن رفضوا دستورهم القديم، فقاموا بإسقاطه سخطاً عليه، وعلى عهد كان لا يقيم وزناً للدستور أو لسيادة القانون، وما أريد أن أقوله إن على المجلس العسكرى أن يتحمل المطالبات المتزايدة فى فترة «نشوة الثورة»، وأن يعمل على تحقيقها مادامت لا تتعارض مع القوانين، وإقامة الحوار الوطنى الموسع - على أهميته - ليست المطلب الوحيد المهم، فالمطالب سوف تتزايد وتكثر كما فى كل الثورات، خاصةً فترات ما قبل الاستقرار. وقد كان الجيش المصرى على مر العصور مؤسسة ملتزمة، ففى أيام أحمد عرابى استعان به الشعب لتوصيل مطالبه، فلبّى النداء دون تأخير، وفى عام 1919 رفض أن يتعرض للشعب المصرى، ولم ينقد للإنجليز الذين طلبوا منه قمع الثورة، أما فى عام 1952 وعندما قام الجيش بحركته، فقد استقبله الشعب فى الشوارع بالترحاب والتأييد، وأنا أظن أن كلاً من الشعب والجيش المصرى سوف يظل حريصاً على الحفاظ على هذه العلاقة وعلى الثقافة المُشكَّلة فى وعيه تجاه الآخر باعتبارها موروثاً تاريخياً، وما حدث فى ميدان التحرير مؤخراً أياً كان سببه، وسواء كان بسبب محاولة الوقيعة أو سوء التقييم من المعتصمين بسبب ثورة الإحباطات المتزايدة لديهم، أو بسبب سوء الإدراك والإدارة من الجيش، فإن الجيش يظل هو جيش مصر وأفراده هم أبناء الشعب وإخوانه.