فى أحد أيام صيف عام 1992، توجهت إلى بناية عادية من 15 طابقاً، فى حى الظاهر الشعبى، بوسط القاهرة، لألتقى السيد جعفر نميرى، الرئيس السودانى المخلوع آنذاك، وأجرى معه حواراً لإحدى المجلات العربية. كان «نميرى» يقيم فى شقة واسعة متوسطة القيمة فى الطابق الأخير من البناية، ويتحلق حوله عدد قليل من المساعدين السودانيين غير المعروفين. تبقى صورة الحاكم العربى المخلوع إحدى أكثر الصور إثارة ودراماتيكية فى التاريخ السياسى، خصوصاً إذا كان هذا الحاكم من الذين تمتعوا بالسلطة المطلقة، وما تجلبه من شعور بالزهو والمجد والتكبر والاستعلاء.. حيث يجسد الرجل من هؤلاء ذروة التناقض بين ماض قريب مفعم بالتصرفات والمشاعر «نصف الإلهية»، وحاضر موجع، ينزله منزلة العوام، ويعرضه لنظرات التفحص والتعجب وربما الشفقة، وصولاً إلى اعتباره مدعاة لاستخلاص العبر، وموطئا للرثاء. نُشرت المقابلة التى أجريتها مع الرئيس نميرى آنذاك، بعد أيام معدودة من اللقاء، تحت عنوان: («جعفر نميرى»: «لم أكن ذكياً بما يكفى»)، وكان أهم ما فيها، أنه اعتبر نفسه مسؤولا عن قدر كبير مما آل إليه حاله، لأنه «أساء اختيار الرجال»، ومن ضمن ما قاله فى هذه المقابلة أنه أعاد الرئيس الحالى عمر البشير إلى الخدمة العسكرية، بعدما تم استبعاده منها لأسباب سياسية، معتبراً أن هذا التصرف كان أحد أهم الأخطاء التى وقع فيها. وصل ب«نميرى» إلى الحكم فى بلاده عام 1969 بعد انقلاب ناجح، واستمر رئيساً مهيمناً إلى أن أطيح به فى «انتفاضة شعبية» فى أبريل 1985، لكن سنوات حكمه شهدت تدهوراً واضحاً وانسداداً. تسلم المشير «عبدالرحمن سوار الذهب» السلطة فى أعقاب الإطاحة ب«نميرى»، بوصفه صاحب أعلى رتبة بالجيش، لكنه تصرف تصرفاً سياسياً وإنسانياً نبيلاً وفارقاً ونادراً فى الحياة السياسية العربية، إذ التزم بما تعهد به عند وصوله إلى الرئاسة، فأجرى انتخابات وصفت بأنها «نزيهة»، وسلّم السلطة فى العام التالى إلى الحكومة المنتخبة. لكن الحكومة المنتخبة التى أتت بزعامة الصادق المهدى لم تهنأ بالسلطة كثيراً، كما أن الشعب السودانى لم يتمتع بالديمقراطية طويلاً، ولم يجن ثمارها، إذ أُطيح بالحكومة فى العام 1989، بواسطة انقلاب نفذه عسكريون متحالفون مع إسلاميين، وهو الانقلاب الذى ظل يحكم السودان حتى وقتنا هذا. كان عمر البشير هو الضابط الذى نفذ الانقلاب، ولذلك فقد تولى رئاسة السودان، وقاد هذا البلد المتنوع الواسع والمكتظ بالموارد، إلى الوضع الذى بات عليه الآن.. فريسة للانفصال والتمزق والفقر.. ومراوحاً عند حافة الضياع. فى 5 يونيو 2008، نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» حواراً مع الصادق المهدى قال فيه: «أكبر أخطائى هو اعتقادى أن الديمقراطية الليبرالية بشكلها الحالى يمكن أن تنجح فى بلدنا.. لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، لكنت أتحدث عن الديمقراطية بصورة مختلفة عن الشكل الليبرالى.. الديمقراطية بشكلها الحالى هذا لن تنجح عندنا». لم ينجح «نميرى» فى وضع السودان على طريق التنمية والازدهار ولا الحفاظ عليه متماسكاً مستقراً بمنأى عن الانقلابات والاقتتال الأهلى، ولم تنجح «الانتفاضة الشعبية» التى أطاحت به فى تثبيت الديمقراطية، كما لم يفلح الضابط النبيل «سوار الذهب» الذى تخلى عن الحكم طوعاً فى مسعاه. ورغم أن الشعب السودانى أتى بحكومة منتخبة إثر «انتخابات نزيهة»، فإنها لم تستطع الوفاء بالاستحقاقات، ولم تحافظ على الاستقرار والاستمرار، فانقلب عليها العسكر المتأسلمون، واعترف رئيسها بأن «الديمقراطية الليبرالية لن تنجح عندنا». قاد العسكر المتأسلمون البلد إلى مزيد من التمزق والضعف، ووعدوا بتعويض الجمهور الفقير التعس فى شمال البلاد عن انفصال الجنوب ب«تطبيق الشريعة». من غير اللائق أن نسحب ما حدث بالسودان على غيره من الدول العربية، ومن غير المنصف أن نقلل من شجاعة الشعب التونسى ونبله وإخلاصه لقضية الحرية، لكن المنطق يحتّم أن نقر بأن ما جرى بالأمس هناك قد يقع اليوم هنا، طالما أن المعطيات نفسها والآليات ذاتها. إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا يكفى أن يطيح برئيس ويترك نظامه، ولا يكفى أن يطيح بنظام ولا يقيم نظاماً بديلاً، ولا يكفى أن يقيم نظاماً بديلاً من دون أن يحرسه ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً. لا يغير الشعب مصيره بمجرد إطاحة بطاغية مستبد وفاشل، لكن عبر تطوير نظام يتحلى بالعدل والرشد والكفاءة، ويخضع للمحاسبة والمساءلة، ويقبل بالتغيير الدورى السلمى، وهو أمر يحتاج ثقافة وتنظيماً وعملاً منهجياً ومثابرة، بمثل ما يحتاج شجاعة وتضحية. أنجز التونسيون عملاً ضرورياً وبطولياً وصعباً.. لكن أمامهم ما هو أصعب وأشد ضرورة لينجزوه. ذلك المقال نشرته فى هذه الزاوية يوم 23 يناير الماضى، أى قبل اندلاع الثورة المصرية بيومين، واليوم أعيد نشره كما هو، بعدما غيرت عنوانه من «قصة الأمس» إلى «قصة اليوم»، وبعدما أيقنت أن ما جرى فى السودان قد يجرى أيضاً فى مصر، إذا لم تنتبه الثورة.. وتتواصل.