حين نشر غالى شكرى رسالته للدكتوراة فى كتاب بعنوان "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث" عام 1978عن دار الطليعة في بيروت، أثار صدوره جدلاً واسعاً في صفوف المثقفين في العالم العربي لما تضمن من نتائج صدمت الجميع وقتذاك، فلأول مرة ترد لفظة "السقوط" مقترنة بالنهضة ، فالنهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر على يد محمد على باشا كانت تحوي - حسب شكري - عوامل سقوطها، فلم تحقق لها أرضية اجتماعية واقتصادية قادرة على حمايتها، ومن هنا اصبحت معرضة للسقوط، بل إن فترات السقوط أكبر بكثير من فترات النهوض، فالوجه الآخر للعملة وهو "السقوط" لازمها باستمرار، وهو ماحدث في عصر جمال عبدالناصر فالنهضة التى حدثت فى عصره سرعان ما سقطت وتهاوت من جديد في ما نشهده الآن. لقد قامت النهضة على معادلة هي الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد ، الإسلام والغرب ... إلى آخر هذه الثنائيات التى نرددها، أي أنها قامت على معادلة توفيقية، ولكن في النهاية لم يعد التوفيق قادراً على حماية النهضة. ولقد كتب غالى شكرى عن محاولة الدولة التوفيق بين القديم والحديث ،والتى ابقت على القديم بجوار الجديد المعاصر والحداثى ، ولم تحاول الدولة أن تقوم بالتركيب بينهما حتى يتداخلا ويصبحا فى النهاية تيار واحد، بل ابقت على الجديد والقديم متجاوران مما أدى فى النهاية للحفاظ على شكل نهضوى دون مضمون. اختار غالى شكرى عصر محمد علي باشا (1805 1843) وعصر جمال عبد الناصر (1952 1970) اطارا للبحث ، اختارنهضتين سقطتا بعد إنجاز تحقق على ارض الواقع ، وقد وضع غالي شكري يده على ابرز المؤثرات في نهضة وسقوط النظامين. وتحدث فى كتابه على أن العالم العربي الحديث لم يعرف العلمانية كجزء من مشروع حضاري شامل ، وإنما عرفها كثقافة عقلانية تنويرية أو كمجموعة من القوانين المنقولة عن الغرب ، ونتيجة لذلك كانت العلمانية في أغلب الوقت مجموعة من النصوص القانونية أو الهياكل الدستورية دون مضمون علماني حقيقي يرتبط أساساً بمشروع للديمقراطية الاجتماعية والسياسية والثقافية . وكان لابد أن ندرك أن تحقيق ثورة ثقافية شاملة وتغير فى التفكير والرؤية كان لابد ان يصاحبه الاعتراف بالتعدد والتنوع والحرية والديموقراطية وهو مالم يحدث ، فالهزيمة لم تكن لنظام ناصر فقط ، بل لرؤية وطبقة اجتماعية بأكملها تصوروا انهم النخبة أوالطليعة وغيرها من المسميات. وفى كتاب الدكتورة هبة شريف الكارو والمرسيدس " حداثة لم تكتمل "، نستعيد مع المؤلفة ما سبق وتحدث عنه د.غالى شكرى فى سبعينات القرن الماضى ، ومن المؤسف أن نبقى على حالنا المعوج بعد اكثر من 37 سنة ، ولكن هذه المرة الكاتبة تعرض الأمر بأسلوب أكثر بساطة وجاذبية ، عنوان الكتاب يظهر إلى أى مدى نعيش مأزق تجاور الحداثة مع التخلف، والمحاولات التلفيقية المزيفة لاستيراد مظهر حداثى مع الابقاء على اصول الرجعية وجذورها التى مازالت ضاربة فى الوعى واللاوعى الشعبى ، ومن ثم لانجد تغير فى السلوك ولانهضة حقيقية فى الأفق. مايميز كتاب هبة شريف ،الصادر فى 107 صفحة من القطع الصغير عن دار سلامة للطبع والنشر، هو بساطته ، حاولت أن تعطى امثلة توضح افكارها نعرفها جميعا وابتعدت عن المصطلحات الصعبة على القارىء العادى الذى تخاطبه ، أمثلتها واضحة ومباشرة : أفلام سينمائية أسماء مقدمى برامج يمثلون تيارالاسلام العصرى وأمثلة عن مدى تأثيربرامج التوك شو وذيوع الثقافة الشعبية وأبطالها . الفكرة الأساسية للكتاب هى " الحداثة المنقوصة " وانعكاساتها على المشهد الثقافى ، وهو المجال الذى تعمل فيه الكاتبة وتعطيه اهتمامها ، وهى تعود إلى النقطة التى ناقشها غالى شكرى فى كتابه الذى اشرنا إليه فى المقدمة وهو الصراع بين القديم والجديد بين التراث والحداثة لتؤكد عبر صفحات الكتاب ، ان الدولة بمؤسساتها الثقافية روجت لمفهوم الحداثة دون الأخذ بشروطها الأساسية وهى الحرية والديموقراطية والمساواة أمام القانون،وتصورت ان توفيرمظاهر الحداثة كفيل بتطبيقها . تتحدث هبة شريف فى الفصل الأول: عبور لم يكتمل عن بداية لقاء المجتمع المصرى بالحداثة الأوروبية والذى بدأ مع الحملة الفرنسية ، ومع عرض تاريخى لما حدث فى عهد محمد على ثم عبد الناصر وما تلاه تخلص إلى أن الحداثة فى مصر لم تتحقق لأنها لم تدخل فى نسيج المجتمع المصرى لأنها فرضت من قبل النخبة الحاكمة ، التى استخدمت الحداثة لتخدم مصالحها ، وظلت اشكال الحداثة تتجاور مع الاشكال القديمة وقيمها. الفصل الثانى وعنوانه" من أجل عيون رأس المال ، وتركز فيه على تأثر الثقافة بالعولمة والتطور التكنولوجى وتوسع سيطرة رأسمال العابر للقارات ، وتأثر النشاط الثقافى فى مصر بذلك ، وهى تعرض لمسار الثقافة فى مصر واحتكار الدولة للأفكار على مدى سنوات طويلة وتجنيد المثقفين لخدمة الرؤية الرسمية للنظام ومحاولة المؤسسات الثقافية الأهلية والخاصة أن تجد لها مكان ، والتطور الذى حدث مع دخول الإعلام الخاص للساحة الذى رفع شعار " طلبك عندنا والزبون على حق" وما حدث من تباين فيما يقدم من منتج ثقافى يلبى مختلف الأذواق ، وهنا لابد من تقديم التحية للكاتبة التى استطاعت فى صفحات قليلة رصد التحولات فى الرؤية الثقافية فى مصر وتغير موازين القوى والتأثير وهو أكبر فصول الكتاب من حيث المساحة والأهمية .وتستكمل د. هبة الشريف توضيح المشهد من خلال الفصول التالية له : الدولة لاتقدم الخدمات ، النخبة المصرية : أين الخلل ؟ ، الجمهور عايز كده ..فعلا؟ الكتاب لايمكن تلخيصه ، فهو رحلة شيقة وجذابة لاتقدم فيها الكاتبة إجابات ولكنها تحاول بالعرض التاريخى لأصل المشكلة ان تؤكد على منطقية الحاضر وان ماحصدناه كان نتيجة مازرعناه...حداثة منقوصة ومشوهة. الحقيقة ، أننا :أنا وأنت ونحن مازلنا نختار من الحداثة ما يتماشى مع ميولنا ونرمى الباقى فى البحر ثم نتعجب ونتسائل :لماذا مصر ليست دولة عصرية حديثة ؟! مى عزام [email protected] اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة