رأيت للمرة الأولى رأى العين ذلك الرجل المهيب من كوة فى جدار زنزانة رقم 3 فى سجن القلعة فى يوم من أيام عام 82، فتحة أحدثها فى الجدار نبيل المغربى فى محاولاته المتكررة للهرب منذ القبض عليه وحتى وقت قريب، رأيت عبود الزمر لأول مرة بلحية سوداء أكسبت وجهه ضياء إلى ضيائه، سألنى: ما رأيك.. هل صورتى التى تشاهدها الآن «أحلى» أم تلك التى تابعتها عبر الصحف ووسائل الإعلام؟ سكت قليلا وقلت له: تلك الصورة التى رسخت فى مخيلة كل الذين طالعوك مليا لأول مرة فى الصحف المصرية بعد أن تعلقوا بك فى شغف لمعرفة قصتك وهم يستمعون للرئيس الراحل أنور السادات فى سبتمبر 81 يوجه تحذيرا لرجل مجهول: «الواد الهربان اللى سامعنى دلوقتى أنا مش حارحمه»، كم من القصص تم حبكها للرجل الهارب من قبضة السادات، كان يجاورنى فى زنزانة رقم «2»، وهكذا استمر حديثنا أياما طويلة.. أسمع منه حكايات وقصصاً من التى حدثت فى تلك الأيام التى سبقت اغتيال السادات، عن مفاهيمه وأفكاره، عن وعيه ورؤيته السياسية، عن تحفظاته على العملية وتوقيتها، استمعت لرؤية ناضجة سياسية تحمل خبرات واستراتيجيات سبقت زمنه وزملاءه الذين يعملون معه آنذاك، تعلمت منه كيف أضع أذنى على حائط «الزنزانة» لأسمعه حينما يطرق بيده وكيف أضع فمى بين يدىّ ليسمعنى هو، ثم نتبادل الرؤية من خلال «الكوة» التى أحدثها أخونا الأكرم نبيل المغربى - شفاه الله وعافاه وفرّج عنه وعن أسرى السجون المصرية. وفى عصر يوم من الأيام دخل السجان فجأة فرآنى وفهم مغزى التنصت على الحائط ورأى الفتحة التى كنا نداريها ما استطعنا، وبعد لحظات مرت سريعا استمعت إلى فتح باب الزنزانة المجاورة، «زنزانة» عبود، وبعد قليل استمعت إلى جلبة وصوت أدوات التعذيب تنهال على جسد عبود، فهمت ولم أكد أبتلع ريقى حتى عاد السجان ليفتح زنزانتى ليقتلعنى منها بينما أجرّ قدمىّ جراً، لآخذ نصيبى من الجلدات على قدمى وظهرى والصفعات على وجهى لئلا يتكرر مرة أخرى حديث الحائط مع السجين المجاور، وحاولت أن أكرر المحاولة فلم أجد عبودا، فقد بدلوه وأسكنوه زنزانة بعيدة كان يصلنى صوته وهو يقرأ القرآن، وحاولت مع الزائر الجديد فإذا به الشيخ حافظ سلامة، قائد المقاومة الشعبية، كان سلامة يقرأ بصورة متكررة خواتيم سورة المؤمنون فى إيمان وخشوع وخبرة!! تكررت لقاءاتى مع عبود الزمر بعد ذلك فى سجن طرة وتعمقت فى وجدانى أفكاره الناضجة سياسيا، فمرامى الرجل فى الإصلاح كانت قديمة، كما قلت سبقت عصره على الأقل داخل منظومة الحركة الإسلامية الجهادية، كان حديثه كثيرا عن «الناس» و«المواطنين» و«الفقر» والكفاية الاجتماعية، عن تحركات الناس والقدرة على فهمهم، كان اعتراضه باديا لإخواننا الذين يرمون الشعب بالقعود والخور والجبن، كان يدافع عن الشعب، عن فهمه وفكره ونضجه، كان يتحدث طويلا عن تطور حالة النضال فى جذوره عبر التاريخ. كان ابن عمه « طارق الزمر» بمثابة الفقيه السياسى أكثر من كونه فقيها دينيا، كانت لديه القدرة على تحليل الأحداث التى تجرى من حولنا بطريقة لم نألفها، كان عبود يحترم ابن عمه ويقدر دائما نصائحه وكنا كذلك. امتلك الرجلان القدرة على شجاعة المراجعة بلا هرتلة ولا مزايدة، كانا ضمن أول خمسة من قيادات الجماعة الإسلامية وقّعوا على البيان الشجاع الذى أوصى بوقف كل العمليات المسلحة داخل مصر وخارجها، وأيضا وقف كل البيانات المحرضة عليها، كانت الرغبة فى تقديم رؤى جديدة تتواءم مع طبيعة المرحلة بادية فى انحيازهما لمبادرة وقف العنف ربما كانت لهما تحفظات على بعض التفاصيل التى تتعلق بأمور لا تعوق بنيان المبادرة أو فكرة المراجعة، وذهبا إلى ضرورة ممارسة نشاط سياسى سلمى يتيح الفرصة لدمج الشباب فى المجتمع بصورة أو بأخرى. وإذا تحدثت عن آل الزمر، عبود وطارق، فلا يمكن أن أغفل الثالث وهو صنو لهما «مجدى سالم» الذى يملك نضجا فى الفهم وفى الفكر يستوعب بهما أصل التدين وضرورة العصرنة ومواكبة تطور الزمن فى مرونة رفيعة المستوى، ليست لديه الرغبة فى التفريط على حساب موروثه الفقهى والفكرى بقدر ما لديه رغبة أكيدة فى المراجعة الحقيقية التى تفيد الأجيال الجديدة بعيدا عن الصخب الإعلامى. بالقطع، هناك نماذج فى السجون المصرية لم تزل ترزح فى أغلالها ولو لم تحط معاصمها قيود، ولو لم ترسف أقدامها فى أغلال وسلاسل، فأسوار السجون تكفى، وقيود السجان تحيط بالنفس ألما يستصحب زفرات ثخينة، نبيل نعيم وأنور عكاشة وكثيرون قد لا أذكر أسماءهم فى هذه المساحة المحدودة. أختلف مع بعض الذين لا يتعاطفون مع طلب الإفراج عن آل الزمر والبقية الباقية داخل السجون من مخلفات أحداث عام 81 وما بعدها، ربما بعضهم يقيّم الحدث من خارج السياق، تأثرا بكتابات مناوئة أو تاريخ قديم مضى ومضت أحداثه (تلك أمة قد خلت). لقد أكبرت مطالبات خرجت من داخل أسرة السادات من حرمه وأبنائه وبنى عمومته بالإفراج عن عبود الزمر ومن بقى معه من زملائه، لقد حصل المجتمع على حقه كاملا بلغة القانون، لقد قضى الزمر محكوميته كاملة وأكثر منها اعتقالا بموجب قانون الطوارئ، وهكذا قضى سالم ونعيم وآخرون. إن الأمة المصرية مطالبة، اليوم، بالتوحد والنظر مليا فى آفاق المستقبل نبنى خلاله وطنا قويا يملك القدرة على مواكبة الأمم المعاصرة تقنية وحداثة وتكنولوجيا، فهل لدى أصحاب القرار القدرة على فهم متطلبات المرحلة؟.. أتمنى.