اقتلعت الثورة الحاكم وأسقطت الأعمدة الجوهرية لنظامه، ومع الثورات تسقط الدساتير وتموت فهل يمكن مداواة من مات واجراء تعديلات على الدستور الذي سقط بفعل الثورة؟ الدستور هو مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطتها إزاء الأفراد وطبيعة العلاقة بين السلطات الثلاثة،وتنتهى حياة الدستور عندما لا يساير الظروف والتطوراتالتى تلحق بالمجتمع، ويعلم كل دراس للقانون الدستوري أن هناك طريقين لا ثالث لهما لانهاء الدساتير : الأول هو الأسلوب العادي أي أن يتم الغاء الدستور دون قوة أو عنف بصورة قانونية عن طريق استفتاء أو غيره وذلك لوضع دستور جديد يناسب الظروف الجديدة للبلاد، أما الاسلوب الثاني وهو الاكثر اتباعا فهو الاسلوب الثوري أي أن تقوم الثورة أو يحدث الانقلاب على النظام الحاكم فيسقط تلقائيا الدستور الذي كان يميز مرحلة ما قبل الثورة ويحدد شكل الحكم فيها ويتم وضع دستور جديد يتناسب مع مبادئ الثورة ومطالبها التى قامت الثورة من أجل تحقيقها والتي قد تتضمن تغيرا جذريا في شكل الدولة أو طبيعة الحكم فيها أو العلاقة بين السلطات الثلاثة أو مستوى احترام الحريات أو حتى كل هذه العناصر مجتمعة. في ثورتنا الحالية والتى اشرقت بها شمس جديدة على هذا البلد بعد طول انتظار، تجمعت كل العناصر السابقة، فما قامت الثورة من أجله هو عكس ما كنا نعيشه قبلها: حاكم منتخب غير أبدى ولا يجمع في يده كافة السلطات بهذه القوة التى تغرى بالفساد والاستبداد، برلمان منتخب معبر عن الشعب الذي يمثله يمكنه محاسبة الحكومة والحاكم، استقلال كامل للقضاء، اعلام حر، حكومة لا تحكم الشعب بل تخدمه وليست عزبة لأصحابها بل هي مسلط عليها سيف المحاسبة والرقابة، عدالة اجتماعية واحترام لحقوق الانسان، الى آخر هذه المبادئ التى ثارت ملايين الشعب من أجلها، فهل يصلح معها استمرار الدستور الذي كان يعبر عن حقبه بل حقب أخرى، يجمع في طياته كوكتيل من متطلبات نظام عبد الناصر، ومتطلبات نظام السادات، ومتطلبات نظام مبارك، بل وفي بعض مواده تجد أثرا متطلبات التوريث لابنه جمال؟ لا شك اذاً أن الثورة بقيامها قد اسقطت تلقائيا الدستور الحالي، ليس فقط لكونها ثورة بل أيضا لكونها تحمل مبادئ وتطلعات تختلف تماما عما سبق، بل أكثر من ذلك تلك الدعاوى الحالية لتغيير شكل الحكومة جذريا من رئاسية الى برلمانية، فاذا كان الحال كذلك فكيف يمكن تصور اجراء تعديلات على بعض مواد هذا الدستور الذي سقط ومات وجثته تنتظر من يقوم بدفنها سريعا باعتبار أن اكرام الميت دفنه؟ هنا يقول دعاه التعديلات الدستورية ان هذا تعديل مؤقت فقط، وسيأتي الدستور الجديد عندما يحين وقته، أما الان فلا وقت لعمل دستور جديد فهذا الأمر يتطلب على الاقل سنة كاملة لأنه أكبر وأجل عمل قانوني فلا يمكن الاستعجال فيه. هذا القول يبدوا أنه مقنعا ، لكن ماذا تقول والحل بين أيدينا، الحل الذي أوجده العمل وامتلئت به كتب القانون الدستوري هو ما يسمى الاعلان الدستوري . الاعلان الدستوري هو وثيقة مؤقتة تصدر عن الثوار (لأن الدستور المعمول به سقط بمجرد نجاح الثورة ولا يمكن لوضع دستور جديد فورا) هذه الوثيقة تشمل مجموعة من المبادئ الدستورية اللازمة لتسيير البلاد مثل نظام الحكم وطريقة اجراء الانتخابات ، أي المبادئ التى تحتاجها البلاد الى أن يتم اجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية واتمام وضع الدستور الجديد الذي يوضع بتأني خلال عام أو عامين ، هذه الوثيقة عادة ما تكون مختصرة قد تقع في عشرين مادة فقط أو أقل ولا تحتاج لأكثر من اسبوع لاعدادها طالما قام على اعدادها مجموعة ذات ثقة من فقهاء القانون، وهذا الكلام ليس جديدا بل له سوابق في كل دول العالم التى قامت فيها ثورات، ومنها مصر عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 فسقط فورا دستور 1923 المعمول به وقتها وصدر اعلان دستوري عام 1953 تم العمل به الى أن صدر الدستور الكامل عام 1956. لا يتصور أن يأتي البرلمان الجديد محملا بنسبة العمال والفلاحين ولا يأتي الرئيس الجديد مسلحا بصلاحيات الاهية تغرى بالاستبداد كما هي موجودة في المواد التى لم تعدل في هذا الدستور الميت الحي. تعديل الدستور أيضاً معناه التشكيك في أن ما حدث في مصر كان ثورة، وأخشى الا يلتفت القائمين على الأمور الى هذا المعني الخبيث الذي قد يحمله، فاذا كنا نعترف بأنها ثورة مجيدة فلا مجال للتعديل بل يجب عدم اجراء الاستفتاء واصدار اعلان دستوري لن يحتاج أكثر من أسبوع لاقراره، ثم اجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بناء عليه، وان لم يحدث هذا فعلي كل منا التصويت في الاستفتاء ب"لا" حتى نعرف أولا أن شعبنا قد نجح في القيام بثورته وحتى نبدأ عهدا جديدا مشرقا بنور الحرية والعدالة والديمقراطية. مستشار بمحكمة الاستئناف