نابليون بونابرت أراد أن يكسب المصريين، فأسس لهم «الديوان»، وجرى اختيار أعضائه من العلماء والتجار عن طريق الانتخاب فيما بينهم. ومحمد على أراد أن يكسب الطبقات الاجتماعية النافذة فى جهاز الدولة وفى المجتمع، فأسس لهم «مجلس المشورة 1828م». والخديو إسماعيل أراد أن يحقق الهدفين السابقين ويكسب ود الغرب والدعاية لنفسه كحاكم ديمقراطى، فأسس مجلس شورى النواب 1866م. وبعد ذلك كله، نسمعُ من يقول بتأجيل البرلمان، ومن يقول بتعيين أعضاء البرلمان من شخص الرئيس بدل انتخابهم من الشعب، ومن يقولون نخاف على الرئيس أن يعطله البرلمان، ومن يقول الأحزاب أضعف من أن تشكل البرلمان، ومن يقول نريد أن يأتى البرلمان ظهيراً للرئيس مُنصاعاً له ومُعجباً به حتى لا يُعطّل مشروعات الرئيس الكُبرى. نحنُ فى زمان العجائب. نابليون بونابرت عشان يعرف يُحكم مصر، وضع خريطة طريق، وعشان يكسب ودّ المصريين أدخل نُظم الحُكم الحديثة، وعشان يكسب النّخبة أجرى الانتخابات بين السادة عُلماء الأزهر- وكانوا هم والتُّجّار- عماد النُّخبة المصرية، بعد تراجع نُخبة العسكر المماليك، وكان الهدف من الانتخابات هو اختيار عشرة من العلماء لعضوية الديوان. وحسب رواية الجبرتى، فاز فى هذه الانتخابات: الشيخ السادات، الشرقاوى، الصاوى، البكرى، الفيومى، العريشى، موسى السرسى، عمر مكرم، محمد الأمين. وعليهم أن يختاروا من بينهم رئيساً لهم، ويوظفّوا سكرتيراً من غير الأعضاء، وكاتبا، واثنين من المترجمين، يُتقنان العربية والفرنسية. طبعاً، صعبٌ أن أحكى لسيادتك عن تشكيل المجلس العلمى الاستشارى لنابليون بونابرت، مُمكن سيادتك تزعل أن التشكيل كان يخلو من الدكتور فاروق الباز والدكتور أحمد زويل والدكتور محمد غنيم، رُبّما كانت هذه هى غلطة نابليون الكبيرة. لكن نابليون- وهو من قادة الإنسانية العظام- كان أكثر جدّية، وكان أكثر عبقرية فى فهم ما يربطُ العلم والحُكم من وشائج، لم يكُن يلعب سياسة، ولا دعاية، ولا احتواء، ولا مجاملات. نابليون شكّل «المجمع العلمى»، من ستّة وثلاثين عالماً، ليس فيهم عالمٌ واحدٌ له مصلحة شخصية، وليس فيهم عالمٌ واحد تسوقُه أمراضُه النفسية وتقلباته العصبية، وليس فيهم عالمٌ واحدٌ يلعبُ بعلمه لعبة العلاقات العامة والمنظرة على خلق الله. ولقد توزّع العلماء الستّة والثلاثون على أربعة أقسام: قسم الرياضيات، قسم الطبيعيات، قسم الاقتصاد السياسى، قسم الآداب والفنون. مش بقول لسيادتك نابليون كان فاهم هو بيعمل إيه؟! خذُ عندك، محمد على باشا، لم يكُن فى حاجة إلى ظهير شعبى، فهو بنى أمجاده بسيفه وسيوف أبنائه، وهو بنى شرعيته بقيادته الفطرية العملاقة، كانت المشروعات العملاقة عنده كالماء الذى يشربه وكالهواء الذى يتنفسه، كان يُنجزها- بالتعود عليها- وليس بالدعاية لها ولا البروباجندا المُزعجة حولها، كان- مثل كل الجادّين فى الحياة- يعمل فى صمت. رغم ذلك كله، محمد على أسس «مجلس المشورة» 1829م، من 156 عضواً، برئاسة إبراهيم باشا، وعند المؤرخ الأستاذ عبدالرحمن الرافعى، فإن «مجلس المشورة» هو النواة الأولى لفكرة المجالس النيابية فى مصر. كان تشكيله كالتالى: 33 عضواً من كبار العلماء والموظفين، 24 من مأمورى الأقاليم، 99 من كبار أعيان القطر المصرى. طبعاً، لا أريد أن أطيل على سيادتك فى الحكاوى، عن تصورات محمد على باشا عن العلم الحديث، وعن أهميته فى بناء الدولة وممارسة شؤون الحكم، لم يكُن يكتفى بمجرد مجلس استشارى للمنظرة، بل أسس نهضة علمية حقيقية، على أسس معاصرة لزمانها الأوروبى، نهضة مؤسسية ليست عابرة للطريق، بعثات علمية، ومدارس عُليا، ونبوغ حقيقى. العلم الحديث عرف الطريق إلى مصر فى عهد محمد على باشا، وبدأت مصر تُنجب العلماء- فى العلم الحديث- من يوم أن شاء القدرُ لها أن تلتقى بهذا القائد العظيم. عاوز تعرف عظمة الخديو إسماعيل، فقط كل المطلوب منك أن تقف على دلالة العمران الأوروبى الذى أدخله فى قلب القاهرة، هذا عُمران ديمقراطى لمجتمع غربى مفتوح، وليس عمران الحوارى والأزقّة لمجتمع شرقى منغلق متحجب متنقب، هذا العُمران الديمقراطى عرفنا قيمته فى ميدانه الأشهر، ميدان الإسماعيلية الذى نعرفه اليوم باسم ميدان التحرير، الذى كان قبل ثلاث سنوات مزاراً عالمياً، حين تدفقت فيه أنهارٌ من بشر يهتفون بالحرية، بالكرامة، بالعدالة. أنشأ الخديو إسماعيل مجلس شورى النواب فى 22 أكتوبر 1866م، منها ليكسب كبار الأعيان فى الداخل، ومنها ليكسب الدعاية لنظام حُكمه فى المحافل الأوروبية، ومنها ليُيسر على نفسه طُرق الاقتراض من بيوت المال الأوروبية. يتشكّل المجلس من 75 عضواً، وفترةُ العضوية ثلاث سنوات، ويكون الانتخاب حسب تعداد السكان فى كل منطقة، وتتمثل الهيئة الناخبة فى مشايخ البلاد وعمدها فى المديريات، والأعيان فى القاهرة والإسكندرية ودمياط. ويشترط أن يكون النائب مصرياً ممن يتصفون بالرشد والكمال، لا يقل عمره عن 25 سنة، لم تصدر ضده أحكام جنائية، ولم يُطرد من وظيفته الحكومية، أو حُكم عليه بالإفلاس، وألا يكون من الفقراء والمحتاجين، يعرف القراءة والكتابة، يمتّع أعضاء المجلس بالحصانة الجنائية أثناء فترة انعقاده، ويكون اختيار رئيس المجلس ووكيله من حقّ الخديو. جاء فى مذكرات أحمد شفيق باشا: طُلب من الأعضاء، فى مجلس شورى النواب، تقسيم أنفسهم إلى ثلاث مجموعات، الأولى: المؤيدون للحكومة ويجلسون على اليمين. الثانية: المعارضون للحكومة ويجلسون على الشمال. الثالثة: المعتدلون فى مواقفهم من الحكومة ويجلسون فى الوسط. صاح النوابُ، أو بعضُهم بأعلى صوت، كيف نُعارضُ الحكومة، وجلسوا جميعاً على اليمين، حيثُ مقاعد المؤيدين. تطوّر أداء النواب فى برلمان الخديو إسماعيل، وبالتجربة العملية اكتسبوا مواهب العمل النيابى، ففى يناير 1879م، اعتبروا أنفسهم: نواب الأمة المصرية ووكلاءها المدافعين عن حقوقها، الطالبين لمصالحها. وقد وصفوا برلمانهم بأنه: أساسُ المدنية والنظام، وعليه مدارُ العمران، وهو السبب الموجب لنوال الحرية، التى هى منبع الترقى والتقدم، وهو الباعث الحقيقى على بث المساواة فى الحقوق، التى هى جوهرُ العدل وروح الإنصاف. إلى أصدقائى الذين يطالبون بتأجيل البرلمان، والذين يطالبون الرئيس بتعيين برلمان خصوصى، والذين يريدون البرلمان ظهيراً للحاكم الجديد، إليكم يا أصدقائى أرفعُ صوتى: أطلبُ روح العدل والإنصاف. اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة