لم أزر الريف إلا بضع مرات تعد على أصابع اليد الواحدة، ولم أر حقوله عن كثب ولا تلمست ثماره وهى لم تزل على الشجر، وكل الذي يحضرنى عندما يتحدث أحدهم عن الريف، مجرد مساحات خضراء كبيرة يتناثر بينها المزارعون، تمرق من أمامى بسرعة كبيرة وأنا مضجع على كرسى القطار في الطريق إلى وجهتى، وكان يفتننى الذي في طفولتى وأنا أشاهد الأفلام السينمائية التي تدور أحداثها في الريف، هو منظر خيال المآتة الذي يتسيد الحقل ومن هيبته تفر الطيور وتكف عن إفساد المحاصيل، ثم حدث أن عملت في الريف لمدة قليلة لا تتجاوز الأربعة أشهر، وكانت الشركة التي أعمل بها شركة مقاولات كبرى تم تكليفها من جهات سيادية بانشاء مشروع مهم وعاجل، وكان المشروع وسط زراعات كثيفة، تم إزالة بعض أفدنة منها بغرض اقامة المشروع، وترك الباقى يحيط بالمشروع، ولتيسير الدخول والخروج من الاستراحات إلى مكان المشروع تم عمل مدق حجرى بطول الطريق يخترق هذه المزروعات. كان عملنا يبدأ من الصباح الباكر جدًا حتى الغروب وكنا نعمل بجدية شديدة حتى ننجز المهمة في الوقت المقدر لها، وكان هذا أول لقاء مباشر لى مع خيال المآتة، مع أول وصول إلى المكان، وكنت قد وصلت ساعة العصر، ووضعت حقائبى بالغرفة التي خصصت لى في الاستراحة، ثم اخذتنى سيارة لكى أمر على الموقع وأعاين الجزء الموكول لى بالعمل فيه، وأعادتنى مرة أخرى إلى الاستراحة، وبعد العشاء عن لى أن استطلع المكان الذي يلتف بالاستراحة، وحذرنى الغفير من التوغل بعيدا، ثم أعطانى عصاه لتهويش الذئاب والثعالب بها إذا ما حاولوا مهاجمتى لأنهم اعتادوا مهاجمة الأفراد التي تسير بمفردها، أخذت منه عصاه وأنا أتصور إنه يحاول اخافتى باعتبارى أفندى قادم لتوه من المدينة، كنت أسير قدما في المدق الحجرى وأخوض أكثر في ظلمة الليل، ثم اشتدت الرياح فجأة وعوت ذئاب وكلاب مع تصاعد أصوات طيور الليل كالكروان والبوم، وارتعبت كثيرَا واستدرت راجعًا واكتشفت أنى سرت مسافة طويلة وعلىّ أن اقطعها بسرعة حتى لا أصاب بأذى، أسرعت في خطوتى وأنا أنظر يمينا ويسارا تجاه الحقول، ثم رأيت جسد رجل منتصب جسده العلوى يتحرك بعصبية ويصاحب حركته صوت معدنى،هرولت وأنا اخفض رأسى متصورًا إنه قاطع طريق يشد أجزاء بندقيته وهو يصوب رصاصه تجاهى، ثم وصلت أخيرا إلى مقر الاستراحة والقيت بالعصا إلى الغفير دون أن أشبع فضوله وأخبره بما أخافنى. في صباح اليوم التالى أدركت عند وصولى إلى النقطة التي أفزعتنى ليلة الأمس، إنه لم يكن هناك قاطع طريق ولا يحزنون، إنما خيال مآتة حركت الرياح ملابسه المهلهلة وقطعتي الصاج المثبتتين في طرفيه فصدر عنهما ذاك الصوت المرعب، تركت الركب الذي أسير معه ووقفت أمام خيال المآتة هذا، بعد أن طارت العصافير التي كانت تعتليه، كان عبارة عن بوصتين من الغاب متقاطعتين وعليهما هلاهيل قماش وفى قمته عمامة كبيرة، وكان هناك أكثر من خيال مآتة في الحقل الواحد على مسافات متباعدة وكلهم في وفاق تام مع الطيور يلعبون عليها ويغازلون بعضهم بعضا ويأكلون ثمار الحقل أحيانًا داخل عمته. دفعنى هذا لسؤال الغفير وعدد من المزارعين عن أهمية خيال المآتة التي بدت لى معدومة، فأكدوا لى بأن الطيور تخافه فعلا وأن لا مفر من وجوده بالحقل لأنه يحافظ على انتاجية الحقل ويمنع الأذى عنه. ثم اعطونى معلومات ممتازة مستقاة من خبراتهم وتفننهم في تشكيل خيال المآتة الذي ينجح في إخافة الطيور، ومنها ان يتم حساب المسافات التي بين كل خيال مآتة وآخر بدقة متناهية ويراعى فيها اتجاهات الريح، وأن البوص المستخدم في الجزء العلوى يجب أن يكون سمكه أقل حتى يدخل بسهولة في البوص السفلى ويسكل بذلك محورا يساعد على الحركة أكثر بمجرد هبوب الريح فيخيف الطيور، وكذلك العمة يجب أن تكون مهيبة وضخمة، وأنهم أحيانًا يضعون حبات طماطم صغيرة في عين خيال المآتة ويسممونها وعندما تقضمها الطيور تلقى حتفها فتبتعد الطيور الأخرى، كما يجب أن يخرج القش المحشو به جسد خيال المآتة من نهاية ذراعيه حتى يبدو كأنه يهش الطيور بأطرافه، وعندما حدثتهم عن منظر الطيور التي تعتلى خيال المآتة في تحدى، أخبرونى بأن هناك مدة معينة يكون فيها تأثير خيال المآتة فعالا ثم تعتادوا الطيور، وأنهم يغيرون من أشكاله دوما حتى يصبح تأثيره متجددا. وأضافوا بانهم اكتشفوا حاليا أن شرائط الفيديو التي تسجل عليها المواد المرئية إذا ما أخرجوها من غلافها وقطعوها وثبتوها من طرفيها في قوائم خشبية تخترق حقولهم فإن ذلك يخيف الغربان والطيور جدًا، لان أشعة الشمس تنعكس على هذه الشرائط كما انها تتحرك عند أقل حركة للريح وتصدر صوتا لا يميزه البشر لكنه يخيف الطيور جدا. ثم قرأت مؤخرا كتابا عن خيال المآتة ووجدت أن ما نعانى منه في ريفنا نتشارك فيه مع العالم، كما وجدت به بعض المعلومات والطرافة رأيت أنه من واجبي أن اتشارك فيها مع القراء المهتمين. الفزاعة«خيال المآتة» دمية محشوة بالقش مصنوعة من الملابس القديمة، يضعها المزارعون العازمون على إخافة الطيور والغربان وابعادهم عن اتلاف محاصيلهم، وهم يتفننون في صنع هذه الفزاعات باشكال مختلفة ويشاع أن هذه الاشكال تكون فعالة أكثر إذا كانت ملابسها تعود لشخص سبق له أن اصطاد الطيور في المنطقة، وإحدى الطرق الشائعة هي تزيين الفزاعة بشرائط تتحرك بفعل الريح، على أمل أن توحى حركتها بوجود شخص حقيقى، وغالبا ما توضع قطع من المعدن أو الزجاج اللامع على الفزاعة يكون الهدف منها التقاط أشعة الشمس وإبهار الطيور بالضوء المنعكس منها.. ومن الممارسات الشائعة وضع طائر ميت أواثنين إلى جانب الدمية كتحذير، وهو في الحقيقة امتداد لاسلوب قديم في مكافحة الجريمة، حيث كانت جثث القراصنة أو الثوار تترك على المشانق أو في أقفاص حديدية كتحذير لكل من تسول له نفسه تحدى قوة القانون والنظام. وفى عصرنا عالى التقنية..أحيانا يبنى المزارعون العديد من النماذج الكهربائية في حقولهم وبعضها مبرمج على أن يضىء في فترات منتظمة أو يصور صوتًا مثل أصوات اطلاق الرصاص، أو أصوات أخرى مخيفة، وهناك فزاعات متطورة تقوم بتحريك أطرافها أو إدارة رأسها، ولاتزال فعالية هذه الدمى في إخافة الغربان غير مؤكدة على الرغم من انها فعالة تماما في إخافة البشر، وقد قام بعض المزارعين باحضار مسجلة صوت وأدار الصوت عاليًا لتصدر موسيقى الروك والرول عبر حفلة مسجلة، وعندما عادوا في اليوم التالى، كانت هناك غربان أكثر من قبل في الحقل وهى تتراقص وتقفز بمرح مع النغمات. تعمل أفضل الفزاعات لحوالى أسبوع أو أثنين قبل أن تكتشف الطيور إنها غير مؤذية. المعلومات الواردة في هذا المقال من كتاب (التاريخ الطبيعى والثقافى) تأليف بوربا ساكس ترجمة: ايزميرالدا حميدان