يضحك أبي للمرة الخمسين وهو يحكي قصة ريكو وابراهيم النجار، كان عم ابراهيم ضخم الجثة، يمسك ضلفة الباب في يده بسهولة كأنه يمسك بساندوتش صغير، ويقوم بمهامه كاملة، بلا مساعدة وبقليل من الأدوات، ويعلق الحاج إلهامي صديق أبي على نفس الحكاية وفي نفس المواضع تقريبا بتعبيرات من نوع "كان منجز"، "بس كان أكول ومابيبطلش كلام"، ويعود أبي ليكمل حكاية التجربة الوحيدة التي استخدمه فيها بعد أن اقنعه الحاج إلهامي بصفات السرعة والإنجاز والقوة والفردية، فيقول: كان فعلا سريعا في استخدام المنشار، فيقطع الخشب بمهارة ويلتقط المسامير كأنه مغناطيس وبطرفة عين واحدة يختار مكانها، ويضربها بالشاكوش بتلذذ وقوة، ويحرص على أن يغطس راس المسمار في الحشب تماما، وبعد ذلك كله، نكتشف ان المقاسات خطأ، وأن أماكن المسامير غير سليمة، فيبذل أضعاف الوقت في خلع المسامير الغاطسة، ويتلف الخشب، ويحاول علاج أخطاه بالترقيع والاستبدال، والحديث عن "العكوسات" في هذا اليوم الغريب، قبل ان يميل على اذن ابي ويهمس له بصوت يسمعه الجميع "دي عين وهبه.. خدت بالك من ساعة ما عدى وقال سعيدة، الحال كله اتخبط؟". ويكمل أبي الجانب الآخر من القصة عن ريكو النجار النحيف الذي كان يفضله، رغم أن معظم الناس كانوا يتجنبونه لصالح عم ابراهيم، لأن طريقته في العمل كانت غريبة، فهو أعلى أجرا، ويسأل عن تفاصيل كثيرة، ويتحرك مع فرقة لا تقل عن ثلاثة صبيان، ويبالغ في استخدام المسطرة وأقلام الرصاص الملون، وأنواع محتلفة من المسامير، ويقسم أبي أنه استخدمه في أعمال كثيرة طوال سنوات، ولم يشاهده أبدا يخلع مسمارا من مكانه، او يحتاج إلى خامات جديدة اثناء العمل، أو يستاذن لإحضار نوع آخر من "العدة" يحتاجه في مهمة طارئة، فكل شئ كان مدروسا لأن ريكو كان مهندسا بالفطرة. العريب أن ابي كان حريصا على استخدام عم ابراهيم بين الحين والآخر، رغم أن أول تجربة بينهما انتهت بمهزلة هي اساس الحكاية التي يرددها حتى الآن، وعندما أبديت إندهاشي ذات مرة وسألته: لماذا لا تكتفي ب"ريكو" وتنسى عم ابراهيم ومشاكله؟ قال لي يومها بمنتهى الجدية: كل واحد له رزقه، وانا استخدم كل واحد فيما لا يضر، فقد عرفت قدرات عمك ابراهيم، ولا أطلب منه إلا الأعمال البسيطة التي لا تحتاج مهارات كبيرة. تأملت المواقف التي كان أبي يستعيد فيها القصة، فاكتشفت أنه يحكيها تعليقا على أحداث وشخصيات سياسية واقتصادية وتصرفات مسؤولين كبار في الدولة، ولما سألته: هل تقصد ذلك فعلا؟. قال ضاحكا: "اللي بنى مصر/ كان في الأصل عمك ابراهيم" فهو أول رائد أعرفه للعشوائية في مصر المعاصرة. تذكرت هذه الحكاية أمس، فاتصلت بأبي وسألته: * فاكر حكاية عم ابراهيم النجار؟ - رد بصوت واهن: مين؟ * عم ابراهيم، اللي كان بيمسك مسمار 10سم يدقه في الخشب، وبعدين يقعد بقية اليوم يحاول يخلعه؟ عاد الرنين لصوت أبي، وبدا يعيد الحكاية بتفاصيلها، وسمعت ضحكته القديمة تجلجل، ثم توقف فجأة عن الضحك وسألني: وإيه اللي فكرك بالحكاية دي النهارده؟، انت قابلته في شغلك؟ قلت له: أيوه يا بابا، ده بقى منتشر جدا. أبي يعرف أن عم ابراهيم الله يرحمه مات منذ سنوات، لذلك اتفق معي على أمسية نحكي فيها عن مأساة بلد الاسطوات بعد انتصار تلاميذ مدرسة عم ابراهيم على تلاميذ مدرسة ريكو، وأظن أن كل واحد فيكم لديه من الحكايات والأمثلة عن هذه الخيبة أضعاف ما عندي، المهم نلاقي حل بقى للخيبة اللي احنا فيها.