استيقظت فى صباح هذا اليوم على اتصال جارتى "سمر الحسينى" الناشطة الحقوقية بمركز الاندلس لحقوق الانسان، لتاكد فيه على موعدنا الذى اتفقنا عليه ليلة امس وانها فى انتظارى، لم يهزمنى حينها شعورى اليومى بالرغبة فى الاستمرار فى النوم كنت اشعر ان هناك مسئولية ما يجب ان انتفض من فراشى مسرعا من اجلها. التقيتها بالقرب من منزلها واخذنا نتناقش.....الى اى مكان سنتجه؟؟ ، رجحت ان نمر اولا على "دوران شبرا" لانها الاقرب لمحل سكنا. لم يكن لدى مانع فى ذلك فنية المشاركة كانت لدينا بكل حماس ولم يكن المكان هو المهم. انشغلت هى اثناء طريقنا برصد عدد سيارات الامن المنتشرة بكافة الشوارع الرئيسية ، وحساب العدد التقريبى للعساكر حتى تزود صفحتها على "تويتر" بهذه المعلومات، لم يكن الامر لى مالوفا لانها المرة الاولى التى ارى فيها هذا الحشد من القوات كما انها اول مرة اشارك فى مظاهرة منظمة كهذه، وانتابنى حينها شعور انه سيكون يوما غير عادي. بعد حوالى 20 دقيقة من لقاءنا وصلنا الى محطة "دوران شبرا" لنجد اول مشهد مضحك فى ذلك الصباح...."فقط سيارة امن مركزى واحدة تقف على الرصيف المقابل لمحطة دوران شبرا بجوارها عدد من قيادات الداخلية يحتسون الشاى وعلى الجانب الاخر للرصيف ثلاثة من رجال المباحث فى لباس مدنى يستعدون للتحرش باى شخص سيفكر فى الوقوف اما محطة المترو" المضحك هو ان التجهيزات فى هذا المكان كانت ضعيفة رغم انه احد الاماكن المحددة للتظاهر ، وقالت لى سمر: هذا استخفاف بالمتظاهرين هم لم يدريكوا حتى الان حجم ما سيحدث اليوم!! لم تدم الضحكة على وجهونا سوا عدة خطوات اذ نرى شئ اخر غير ما تركناه وراء ظهورنا، وكانه نوعا اخر من الاستعدادات الامنية او الوجه الحقيقى لهذه التجهيزات، حاولنا عد سيارات الامن التى تجاوزت 13 سيارة على شارع شبرا الرئيسى وهو ما يمكن وصفه بجسر امنى يربط ما بين محطة "دوران شبرا" و محطة "روض الفرج". كانت الساعة 11 صباحا فقررنا ان نتجه الى وسط العاصمة رغم انها لم تكن ضمن الاماكن المحددة للتظاهر لكن كان لدى احساس انه هو المكان الصحيح لاندلاع الثورة وقلت لرفيقتى حينها "هنا قلب القاهرة" ، وافقت لانها كانت تنوى المرور على محل عملها لكى نتصفح المواقع الالكترونية الاخبارية لمعرفة ما هى اخر التطورات ولكى ناخذ قسطا من الراحة حتى الساعة 2 ظهرا وهو الموعد المحدد لبدء التظاهرات. وصلنا سريعا الى وسط القاهرة ، صدمنا الموقف الامنى الصارم والعدد المحتشد من سيارات الامن المركزى فى ظل قلة عدد المارين فى الشوارع وكانه الهدوء الذى يسبق العاصفة ، لم ندرك حينها ان هناك عاصفة ستاتى فالوهلة الاولى لهذا المنظر كانت قاتلة للحماس وكان لا احد غيرى انا ورفيقتى ينوى التظاهر فى هذا اليوم او لا احد غيرنا فى هذا الوطن يريد المطالبة بالحرية. زادت التضيقات الامنية كلما دخلنا الى عمق الشوارع ، مررنا من امام دار القضاء العالى لنجد سيدة وفتاة يحملان علم مصر ورجل من الامن يحاول التعرف على هويتهم، ظلت جولتنا الاستكشافية فى شوارع العاصمة الى ان وصولنا الى الجامعة الامريكية لنجد بعض الشوارع مغلقة بصفوف الامن المركزى وكانه حصار لبعض المبانى، وصل حدة التضيق فى هذه الساعات الى ان هناك مندوبين للامن بلباس مدنى يسألون المارة عن بطاقتهم الشخصية اثناء عبورهم من رصيف الى اخر. بقدر الامكان كنا نحول الاسراع فى خطوتنا كى لا يستوقفنا احد من قوات الامن، الى ان وصلنا الى شارع القصر العينى حيث محل عمل رفيقتى سمر الحسينى ثم التقيت باربعة من الشباب زملائها بالمكتب كانوا ماكثون على شاشات الحاسب يتابعون الاخبار واخذنا نتناقش فى توقعتنا لذلك اليوم و يدور فى باطن عقل كلا منا هذا التساؤل " هلى هذه الثورة التى ننتظرها منذ عشرات السنين؟" بعد ان مرت ساعة جاءتنا انباء عن ان هناك مجموعة من المتظاهرين تحركوا برفقة ايمن نور بميدان باب الشرعية متوجهين الى وسط القاهرة ، وبدأ الجميع يعزم استعداده للتحرك الى الشارع للمشاركة. ثم تحركنا فى عجالة وحركة مسرعة الى ميدان التحرير لنجد مجموعات صغيرة من المتظاهرين تحاول اختراق حواجز الامن البشرية التحقنا بهم واخذنا فى الهتاف مرددين" يسقط يسقط حسنى مبارك" و الاعداد اخذت تتزايد فى كل دقيقة ومحاولتنا لتجاوز الحاجز البشرى مستمرة. نجحنا بعد دقائق من العبور من الميدان الى كوبرى قصر النيل مرورا بالجامعة العربية وسط اقبال شديد من اجهزة الاعلام الاجنبية لتغطية المظاهرات، كنت حينها اشعر بالفرحة لقد استطعنا الانطلاق من وسط الميدان دون ان يستوقف هتافنا احد الى ان وصلنا الى مقر الحزب الوطنى المجاور للمتحف المصرى لنجد مجموعة اخرى من المتظاهرين تنضم الينا حاملين اعلام خضراء عليها شعار الوفد فزاد حماسنا خاصة عندما ادركنا ان رموزا سياسية تجول معنا وهو ما سيعطى لنا حماية اوسع. كنت اتقدم الصفوف الاولى للمظاهرة وبيدى رفيقتى فى هذا المشوار من الصباح نحاول ان نصنع خط سير لهذا العدد المستمر فى التزايد من المتظاهرين، والهتافات بداءت تعلو فى سماء القاهرة مطالبة " الشعب يريد اسقاط النظام" انتابنى حينها اننا قد نقدر على ذلك، فالشعب يشاركنا الخطوات والاعداد تتزايد. ظل الطريق مفتوح امامنا الى ان وصلنا الى ميدان الاوبرا وقرر قيادات الوفد ان يعودوا بالمظاهرة الى باب الشعرية مرة اخرى، لم افضل انا وسمر الانضمام اليهم وقررنا العودة الى ميدان التحرير. عدنا سيراً مسريعين نحاول ان نقراء الاخبار من اعين اصحاب المحلات التجارية التى اغلقت انصاف ابوابها فى هذا الصباح، فادركنا ان تظاهرات اليوم ستكون مختلفة عن كل مرة شاركنا فيها. حتى الان لم تكن شرارة الغضب قد اشتعلت، الى ان وصلنا الى الميدان مرة اخرى لنجد اعداداً ضخمة من المتظاهرين علمنا بعد ذلك انهم انضموا الينا من حى المهندسين واخرون جاءوا من شبرا، كان المنظر يعبر عن ان الجميع يسرع خوفا من هزة ارضية قادمة يتجهون جميعا نحو شارع القصر العينى او بتعبير ادق نحو مجلس الشعب والذى اصبح اشهر رموز الفساد مؤخرا لان الاغلابية الساحقة فيه جاءت بالتزوير. وبالرغم من التعب الذى كنا نشعر بيه فى الساعات الاولى من هذا النهار نظرا للممسافة الكبيرة التى قمنا بمشيها على الاقدام وسط المظاهرة وايضا مشوار عودتنا مرة الى اخرى الى ميدان التحرير ، الا اننا اسرعنا فى الانضمام الى اعداد الشباب الضخمة التى احتشدت فى الميدان. كان رد فعل الامن هذه المرة مختلف فى التعامل مع المظاهرات ففى البداية اكتفوا بوضع الحواجز البشرية ومحاولات لاخماد تحركتنا فى شوارع العاصمة الا انهم اخذوا فى اطلاق القنابل المسيلة للدموع فى كل مكان وبكميات كبيرة وهو ما جعلنا نشعر بالاختناق واخذنا نبحث عن ماء محاولين التخلص من حالة الاختناق. وجدت فتاة تنادى بصوتا مرتفع "من يريد الماء" انتفضت من الرصيف مادادا يدى باتجاه الصوت وسط اصوات من جميع الاتجاهات تنصح الشباب بعدم الحك باعينهم و عليهم فقط الاكتفاء بشربة ماء واحدة، فى الوقت ذاته وبعد ان تمكنت من تفتيح عينى على هذا المنظر الابوى حيث رجل كبير فى السن يحتضن رفيقتى سمر ويشد بيده فوق ظهرها، فلم اجد ظن سواء انه والدها لتكن هذه اللحظة الاولى التى نلتقى سويا فيها. حاولنا العودة مرة اخرى الى قلب الميدان حيث بدأت قوات الامن فى استخدام عربات المطافى لتفريق الاعداد المحتشدة من المتظاهرين فاسرعنا الخطوات وسط اخرون محاولين دعم الشباب الثابتين فى صدر الصدام مع الامن. وفى الطريق حاولنا حمل المصابين من وسط الطريق لاسعافهم ومساعدتهم فى التقاط انفاسهم ، كنا نجد فى كل مكان مصابين على الارض لا يستطعون الحركة من شدة الاختناق، شعرت بنغزة قوية بقدمى اليمنى جعلتنى افتقد القدرة على التوازن فاسرع عدد من الشباب بالالتفاف حولى لمعرفة ما حدث لى ومحاولة مساعدتى. فى نفس الوقت جمعتنى الصدفة بصديقى المقرب عبد الله حلمى الناشط السياسى ،حيث انه تمكن من رؤيتى وسط هذا الزحام ونادى على الا انى كنت افترش الارض من شدة الالم ، حاول الشباب اسعافى سريعا وحاول عبد الله الوصول الى متجها من الجانب الاخر الى منتصف الطريق امام الجامعة الامريكية. امطرت السماء علينا فجاة حجارة ارجعتنى الى المشهد الذى تخيلته فى الصغر عند قرائتى لتفسير سورة الفيل حيث ارسل الله طيرا يلقون الحجارة على جنود آبرهه الذى اراد هدم الكعبة الا اننا لم نكن ننوى هدمها كما ان بشرا مثلنا هم من كانوا يلقونا بالحجارة لكن لعل ابرز ما يفرق بيننا وبينهم هو اننا ندرك ما يعيشه الوطن من فساد وهم لا يعلمون الا تنفيذ الاوامر، لم نكن نرد عليهم الحجارة مرة اخرى بل وصرخنا باصوتنا انها "سلمية" فاستعطفت هذه الكلمة قلوبهم ليتوقفوا عن رجمنا بالحجارة. وكانت الاعداد تتزايد فى كل دقيقة والاصوات تتعالى باسقاط النظام ، لم نجد والد سمر بجوارنا فحاولنا الاتصال به الا ان الشبكة كانت ضعيفة جدا وبالكاد تمكنت سمر من الحديث اليه لتطمئن عليه، الا ان القلق مازال يصاحبنا جميعا لان السماء تمطر حجارة بين الحين والاخر ونحن نقف فى مواجهه عنيفة عند بداية شارع القصر العينى. الجميع كان يحمل نفس الشعور دون الاتفاق، ولم تخيفنا او توقف تقدمنا الحجارة، بل اخذنا فى التقدم وتراجعت قوات الامن الى ان وصلنا الى عمق الشارع و اصبحت اول صفوفنا تتجاوز مبنى مجلس الشورى ومحاولات بعض الشباب المتحمسين القفز بداخله مما اغضب قوات الامن كثيرا لنجد سيارة مصفحة تتحرك بعرض الشارع فى حركة زجزاجية محاولة الاسقاط بنا تحت عجلالتها فى حين ان رد فعلنا على هذا التصرف كان رميها بالحجارة تعبيرا عن استيانا لهذه التصرف الغير ادمى. لم اتمكن من منع رغبتى فى مشاركة العديد من الشباب الغاضب فى توجيه الحجارة نحو السيارة الطائشة، حيث كنت على الرصيف المقابل فاسرعت بحمل حجر بجوارى ووجهت نحو كاميرة التصوير المعلقة فوق صقف السيارة وتمكنت من كسرها وبعدها تراجع الجميع مهرولا بعد ان خرج ظابط من هذه العربة اخذا فى اطلاق العديد من القنابل المسيلة للدموع. لم اجد سمر او عبد الله بجوارى حاولت الاتصال بهم الا ان التدبيرات الامنية كانت تضمن قطع الشبكة عن منطقة ميدان التحرير ليفقد الجميع قدرة التواصل مع اصدقائه فى محاولة لتفريق المجموعات وانهاء التظاهرات، اخذت ابحث عن سمر فوجدتها بقرب حديقة مبنى المجمع الادارى تحاول الاسراع فى خطواتها هربنا من ادخنة القنابل المسيلة للدموع. كانت الساعة حينها تقترب من السادسة وبدأت ظلال الليل تعم على سماء الميدان ما دفع الاوضاع الى ان تستقر اكثر من الاول لنظل فى حالة مصالحة مؤقتة بينا وبين الامن امتدت الى الساعات الاولى من منتصف الليل. الشعور بالتعب والجوع كان هو الغالب علينا فحاولنا الخروج من قلب الميدان بحثا عن ماء وبعض الاكل ، واتجهنا نحو الطريق الاسهل من جانب باب اللوق لنجد كافة المحالات مغلقة ابوابها فى ظل ظلام شديد وترحيب من افراد الامن لخروج المتظاهرين من الميدان، الى ان وجدنا مطعم مزدحم فلم نتردد فى شراء بعض الطعام لشحن طاقتنا مرة اخرى. ثم بحثنا عن هاتف ارضى لكى نطمئن اهلنا ووجدنا محل بشارع فرعى من الميدان بجوار مول البستان وطابور من المتظاهرين ينتظرونه ، وبعد دقائق جاء دورنا فاتصلت بامى لاجدها تبكى لانها شاهدتنى عبر شاشة الجزيرة وانا القى السيارة المصفحة بالحجارة، حاولت اقناعها انى بخير وان شبكة المحمول انقطعت، الا انها ظنت انه تم اعتقالى واغلقوا هاتفى المحمول حاولت مرة اخرى ان اطمئنها، طلبت منى الرجوع الى البيت على الفور الا انى عزمت على المبيت وسط الالاف من الشباب الذين اعتزموا على الاستمرار فى الميدان. التقيت بعد ذلك العديد من الاصدقاء منهم من معى فى العمل حاليا كان ابرز الشخصيات التى القيتها هذه الليلة حازم شريف رئيس تحرير جريدة المال والمعروف بمعارضته للنظام والذى عملت معه كمحرر اقتصادى منذ سنوات واسعدنى الحظ ايضا بلقاء المدون مالك مصطفى والذى اعرفه من خلال ورشة عمل حاضر لنا فيها عن كيفية التدوين الالكترونى وفاعليته، الصدفة جمعتنى ايضا بصديق الجامعة محمد جلال وهو باحث اقتصادى. كانت تلك الساعات المبكرة من الليل بمثابة هدنة ، كما اشعرتنى هذه المقابلات العديدة والغير مرتبة ان جميع اطياف الشعب يشارك فى هذا التظاهر ففى ساعات محدودة ومساحة جغرافية ليست ضيقة التقيت ما يقرب بعشرة اشخاص منهم من لا اعرف عنه شئ منذ اكثر من خمس سنوات وهو ما اعطى لى امل ان الجميع خرج من دياره ليلتفواحول مطلب واحد ، هو اسقاط النظام. كان لسمر نصيب من الصدفة حيث انها التقت اصدقائها فى العمل يفترشون الارض فى لحظات من الراحة بعد كر وفر طوال ساعات النهار جلسنا نتبادل اخر الاخبار التى اطلع عليها البعض قبل انقطاع الانترنت وكانت الاشارات الاولية تقول اننا لسنا بمفردنا وان هناك مجموعات اخرى بكافة انحاء البلد قد خرجت ومازالت تصمد امام عنف الامن. بعد مرور حالة من السكون وعدم حدوث مناورات بين الامن والمتظاهرين قررت انا وسمر ان نخرج من الميدان للبحث عن والدها خارج الميدان بعد ان فشلنا بوجوده بداخله حيث كانت تعلم هى بعض الاماكن التى يرتاد عليه بشكل مستمر ، المفاجاة كانت بعيدة عن الميدان حيث ان الحياة تبدو طبيعية فالجميع يمارس حياته بشكل طبيعى وكانه لا يعلم ما يحدث بداخل الميدان. ظلت محاولتنا فى البحث مستمر فى اكثر من مكان الى ان تمكنت سمر من مقابلة ابن عمها وقررت ان تظل معه الى ان تجد والدها وقررت انا العودة الى البيت لانى وصلت الى قمة الاجهاد وشعرت بان لا جديد سوف يجد بالميدان الى ان تسطع شمس نهار جديد. فى طريق العودة وبالقرب من مقر حزب الغد وجدت رجال المباحث يقبضون على بعض الناشطين الحقوقين من مكاتبهم واحتجازهم فى سيارات ميكروباص خاصة حتى يتم تعطيلهم عن مهامهم او حتى لفقدهم القدرة على نقل المعلومات وحشد المتظاهرين. كل الشواهد الاخيرة زادت من قلقى ورغبتى فى العودة الى البيت لاطلاع على المستجدات السياسية عبر شاشات الاخبار الا ان النوم داهمنى ومنعنى من مواصلة المتابعة لما تبقى من ساعات فى هذا اليوم.