لى ذكريات فى الإسكندرية، فقد درست علم الفيزياء فى كلية العلوم بجامعتها بين عامى 1986 و1990. أعتقد أن هذه الأعوام تضمنت مرحلة مهمة فى تاريخ حراك المناخ الاجتماعى الإسكندرانى من حالة سمحة نسبيا نحو طقس قارس، ضاغط وخانق ومبشر بنوات الانهيار. كانت معظم أقسام كلية العلوم آنذاك تسكن هضبة صغيرة فى حى محرم بك. وكانت هذه الهضبة محاصرة من أسفل بشكل شبه تام بشوارع كئيبة اختلط فيها، خلال الأيام المغبرة التى لا تعرف الشمس، الطين بالقاذورات المبعثرة، فى منظر لا يبشر إلا بالتشاؤم. أما بقايا المبانى التاريخية بحدائقها الأنيقة.. المبانى التى سكن بعضها فنانون وكتاب من مختلف أنحاء العالم خلال أيام أفضل مضت - التى تكلم عنها أمثال لورانس داريل (الذى عاش فترة فى محرم بك) وأيضا «آى. إم. فورستر»، أحد أهم الكتاب الإنجليز فى القرن العشرين - فكان البحث عنها وسط العشوائية والقبح يتطلب الكثير من المثابرة. مع ذلك، لم يكن «محرم بك» أكثر أحياء الإسكندرية بؤساً، بل إن باكوس، بشوارعها العديدة غير المرصوفة، ومبانيها المتهالكة «نصف التشطيب»، كانت المنطقة الأكثر احتفاءً بمناظر الكآبة المذهلة، التى اخترقها خط ترام بدا كأنه ذاهب نحو محطات العالم الآخر.. و«باكوس» هو نفس الحى الذى نشأ فيه الرئيس عبدالناصر، فخرج منه ساخطا على «العالم الضد» الذى كان يسكن إسكندرية طفولته: مجتمع المبانى الأنيقة والقصور الفارهة والحفلات المبهرة والنوادى المغلقة، عالم الأحلام متعدد الجنسيات والثقافات والمعتقدات واللغات، العالم الذى تعوّد التعالى على جاره الفقير البسيط، المعزول فى ضواحى منسية ضائعة من «عاصمة الذكريات» (حسب تعبير «داريل»).. ثم خرج عبدالناصر من باكوس وانضم لحركة مصر الفتاة شبه الفاشية، بمزيجها الغريب من الأفكار الدينية والقومية العربية والفرعونية، ومشى مع زملائه فى مسيرات لبسوا خلالها القمصان الخضراء (بدلا من القمصان البنى التى كان يلبسها النازى)، حاملين الشعل كما فعل زملاؤهم الأوروبيون.. فالنزعات العدوانية التى سادت فكر مثل هذه الجماعات لم تكن بالضرورة موجهة تجاه كل ما هو غربى، إنما فقط نحو قيم التعددية والتسامح السائدة فى الدول الليبرالية، أما القومية والتعصب العرقى والطائفى - التى جسدت رد فعل البعض فى الغرب لمبادئ عصر التنوير العقلانية - فكان من المسموح الإعجاب بها بصرف النظر عن جذورها.. وبالفعل، ارتبط الكثير من أعضاء حركة يوليو (بمن فيهم السادات) بالجماعات الرافضة الفكر السياسى العقلانى، الموجودة آنذاك، والتى لم يعد مؤثراً منها الآن إلا التيار الدينى الصريح، وانعكس تراث هؤلاء الحكام المتخبط - الناتج عن نظرة انتقائية ومحدودة ومشتتة لأسس الفكر السياسى وتجارب التاريخ - على الواقع الذى ورثه الحكم المصرى الحالى، الذى تعامل مع هذا الواقع بمنطق حب البقاء والاستمرار، وإدمان سراب «الاستقرار» فى ظل غياب أى نهج فكرى واضح. عندما صعد الضباط الأحرار إلى السلطة، اشتد الصراع بين العالمين اللذين كان يسكنان الإسكندرية.. وبعد عقود، خلال فترة إقامتى فى الإسكندرية، كان من الممكن متابعة نتائج تلك المعركة من شرفة شقتى، التى كانت تطل على باكوس من ناحية، ومن ناحية أخرى تتابع الارتفاع التدريجى المجسد لموجة من الأسمنت، متجهة نحو البحر ومكونة من مبانٍ تم تشييدها على أنقاض الفيلات والحدائق القديمة.. وكانت تتخلل الموجة ثغرات تم سدها فيما بعد. وكان من الواضح، من خلال متابعة المنظر، أن الهزيمة التى تلقتها نخب الإسكندرية على يد حركة يوليو لم تنفع سكان «باكوس» كثيرا.. فمن وصْف «فورستر» له، نعرف أن حى باكوس الفقير كان على الأقل نظيفا ومريحا للعين قبل أن يصيبه الخراب، وقبل أن تصير المدينة مسخا يتردد خلاله صدى الغضب المكبوت الذى رنَّ فى حاراتها، حيث تكاثرت الأصوات الثائرة، التابعة لمساجد ومصليات انتشرت عشوائيا كالنباتات الشيطانية.. مع ذلك، لم ينتبه النظام إلى أن انتصاره على قيم التعددية الثقافية والسياسية صار مرا، وأن المطلوب كان مراجعة جذرية لمساره.. على العكس، بادر بالرد بمحاولات المزايدة البائسة، فاحتل جهاز إعلامه جيش من «الدعاة»، بعضهم من قدامى مُنظّرى «الإخوان»، واختفت البرامج الثقافية تدريجيا.. أما على الكورنيش، فأخذت منظومة «المزايدة من أجل البقاء» صورة تصاعد مذهل فى سرعة عملية إغلاق المسارح والكازينوهات والبارات.. التى صارت مثل زميلاتها المبانى القديمة بمساحاتها الخضراء، خرابات ترتعش أبوابها المكبلة بالسلاسل تحت تأثير الرياح البحرية، فتدق أجراس التبشير بنهاية عالم محكوم عليه بالإعدام، ينتظر «يوم البلدوزر» ومبانى الأسمنت معدومة الهوية، الشاهدة على سكوت المدينة ليلا بعد فقدان روحها نهارا. اعتقدت النخبة المصرية الجديدة أنها فى أمان طالما هادنت علنياً الزحف المتطرف، وأكلت وشربت «الممنوعات»، وهاجمت قيم هذا الزحف فى الخفاء، فى حين ارتوى بقية الناس من بئر التعصب والفقر المادى والفكرى. أما مشاريع، مثل: إحياء مكتبة الإسكندرية وتجديد مسرح سيد درويش، فكانت حالات معزولة و(منقوصة) شذّت عن النهج العام، وربما جاءت أيضا متأخرة، بعد اختفاء معظم فئات المجتمع التى كان من الممكن أن تستفيد منها وتفهم قيمة ما يقدم فيها. [email protected]