كان يصعد التلة، حاملاً الكثير من الزاد والأدوات والأحلام، وفجأة رأيته يسقط ويتدحرج بقوة نحو السفح، وتعالت الأصوات تطالبه بأن ينهض، لم يكن يستمع لأحد، ولم يكن قادراً على تلبية هذه المطالب فى حال سماعها، ولم تكن تعنيه أشياؤه التى تناثرت بشكل عشوائى، وأظنه لم يكن يفكر فى أسباب السقوط أو إمكانية النهوض، أو مصير الممتلكات التى فقدها، أو ماذا بعد ذلك، فالانهيار هو كل شىء، وهو المسيطر على اللحظة، لا عقل، ولا مشاعر، ولا تواصل مع المحيط أو استجابة منطقية لنصائح الآخر، فكل ذلك لن يعفيه من السقوط، سيستمر يتدحرج أكثر وأكثر حتى يستقر فى السفح، وحينها يمكن أن ينجو ويلملم نفسه وممتلكاته ليبدأ رحلة الصعود من جديد، أو يكتفى بالحياة فى السفح، أو.. أو... هكذا أرى مصر وهى تتدحرج، فأسأل: وبعدين؟.. ماذا بعد أن يستقر البلد فى السفح؟، لكننى للأسف لا أرى سفحاً يوقف هذا السقوط المستمر، لقد تحول السفح إلى هدفٍ نتمناه، لأنه نقطة نهاية لذلك السقوط المهين، تستطيع بعده مصر أن تنفض التراب وتقف على قدميها، لتبدأ من جديد مسيرتها نحو أى شىء. لكن ما هو هذا ال«أى شىء»؟، وإلى أين نمضى بعد أن نتوقف عن «الدحرجة»؟.. المشهد يبدو سيرياليا، لكنه تجسيد واقعى للحظة التى تعيشها مصر.. اتجاه إجبارى لأسفل، لا تنفع معه الصيحات التحذيرية، والإرادة، والوعى، والعلم، والمنطق، والبطاطس.. كل هذه العوامل بلا قيمة فى لحظة السقوط، لأنها لحظة خاصة جدا، يتساوى فيها الجميع ال(...) وال(...)، كل هذه الفوارق ليست لها أهمية إلا «بعدين»، عندما نحتاج إلى الوعى لنحدد مسارنا وهدفنا، والعلم لنخطط لكيفية المضى فى الطريق نحو الهدف، والإرادة لننفذ ذلك. هذه ال«بعدين»، ليست اختراعاً جديداً، فهى من أشهر الكلمات التى تربينا عليها فى جيل «الحواديت»، وهى أقصر الأسئلة الجادة التى كرسها السياسيون والمثقفون لتحديد خطط وبرامج العمل فى المجتمعات التى تبحث عن ذاتها، أو تنشد التجديد والتغيير.. «وماذا بعد؟»، وإذا أضفنا إلى ذلك أسئلة قديمة مازلنا بحاجة للإجابة عنها مثل: من نحن؟، وماذا نريد؟، وكيف نحقق مانريده؟، وما هى «عوامل القوة» التى تساعدنا على تحقيق ذلك؟، وما هى «عوامل المقاومة» والقوى المضادة التى تعوقنا وتعطلنا؟، وما هى الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وكيف يمكن ترتيب أهدافنا فى أولويات؟، و... و.... وأسئلة كثيرة ستظهر لنا فى الطريق لتحدد لنا ما نردده دوما ولا نعمل به وهو: وضع تصور استراتيجى لمستقبل هذا البلد الذى يمور بحركة هستيرية وضجيج لا يهدأ، ولكن دون أن يغادر مكانه وزمانه، وخبراء الاستراتيجية يقولون لنا ببساطة: «المهم هو الاتجاه وليس الحركة»، والمؤسف أننا تحولنا إلى مجتمع «لا اتجاهاوى»، وبالتالى مثل هذا المجتمع لا يمكنه أن يصنع استراتيجية أو مسارا، وستبقى حركته أشبه بحركة الثيران فى حلبات المصارعة، التى تتحرك انفعاليا دون هدف واضح، وهو الوضع العبثى الذى رسمه يوجين يونسكو، فى واحدة من أهم مسرحياته بعنوان «الخراتيت»، التى تحدث فيها عن مجتمع تحول فيه الناس إلى خراتيت هائجة تتحرك بقوة من دون أن تدرك ما حولها، ومثل هذه الكائنات ستملأ المجتمع بحالة من الوحشية، يستحيل معها الحديث عن عقل أو استراتيجية، لذلك أدعو الباقين على بشريتهم من أمثال «بيرانجيه» بطل المسرحية إلى أن يسألوا أنفسهم: وبعدين؟.. ويحددوا هوية المجتمع واتجاهه، وكيفية تحقيق أهدافه، لنتخلص من هذا «الخبل الخراتيتى» الذى نعيش فيه. [email protected]