«من رأى ليس كمن سمع».. حلت هذه الحكمة السابغة فى خاطرى، بينما عيناى تطالعان واجهة كنيسة القديسين وباحتها وواجهة المسجد الذى يقابلها، فتصطدم بآثار دم وبقايا أشلاء وزجاج محطم ووجوه يعلوها الأسى، وفى المسافة الواقعة بين المسجد والكنيسة المكلومة، راح ذهنى يستعيد الكثير من حوادث العنف التى تمت على خلفيات دينية ويمعن فى أنماطها وتفاصيل آثارها والأفكار التى تقف خلفها، فى محاولة جادة لتبديد الحيرة والإجابة عن السؤال العريض الذى يشغلنا جميعا وهو: من ارتكب حادث الإسكندرية الإرهابى؟.. وهى محاولة جِدٌ صعبة فى بلد يفتقد الشفافية، ويعانى الباحثون والخبراء والمتابعون فيه نقصاً مزمناً فى المعلومات. عدت من الإسكندرية منتصف ليل الثلاثاء، ورأسى موزع على جهات واحتمالات ومسارات عديدة، لا أقطع بأحدها، ولا أرجح بينها، فهذه مسألة لا تتم إلا بإتمام معرفة التفاصيل أو أغلبها. وهممت أفتح الإنترنت لأجمع ما تناثر من أخبار، بثتها مختلف المواقع أثناء رحلتى، فوجدت مقالاً فى صحيفة «وول ستريت جورنال» للكاتب بريت ستيفنس تحت عنوان: «Egypt ̛s Prison of Hate» يقدح صاحبه فى التصريح الذى نقلته عنى صحيفة «المصرى اليوم» فور وقوع الحادث والذى وسعت فيه الاحتمالات لتشمل أيضاً جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، وحاول هو تبرئة الموساد، ووصف كل من فكر فى توجيه أصابع الاتهام إلى الصهاينة بأنه جعل مصر «أمة من الأغبياء سياسيا»، وابتسمت وقلت فى نفسى: «الغبى هو من لا يفكر فى كل الاتجاهات والاحتمالات يا سيد ستيفنس مهما خفت أوزانها». وجلست ممعنا فيما رأيت وما سمعت وما اجتمع لدىّ من معلومات قليلة ووضعته على ما تراكم فى رأسى عبر السنين عن مختلف الحركات السياسية ذات الإسناد الإسلامى، لأجد نفسى فى هذه اللحظة أذهب مؤقتا إلى أن حادث الإسكندرية الإرهابى لا يخرج عن ثلاثة مسارات أساسية يمكن ذكرها على النحو التالى: المسار الأول - الجماعات المتطرفة الهامشية: ربما لم تعرف حركات احتجاج سياسى- اجتماعى أشكالا من التوالد والانشطار مثلما عرفت «الإسلامية» منها، ليس فى العصر الحديث فحسب، بل طيلة التاريخ الإسلامى تقريبا. فالاختلاف حول تأويل النص القرآنى من جهة، وتفاوت المصالح من جهة ثانية، قاد إلى انبعاث موجات متلاحقة من فرق الرفض والخروج على السلطة، وأحيانا الغبن من المجتمع. وكانت لهذه الحركات قدرة على التشرنق ومغالبة ظروف قاهرة فرضتها سلطة ذات يد أمنية باطشة، عن طريق التحايل أو «التُقية» تارة، والصبر الطويل تارة ثانية. وبعض هذه الجماعات يمتلك قدرة تنظيمية عالية ويضم تحت لوائه عشرات الآلاف من الأشخاص الذين ينتمون إلى مختلف الشرائح الطبقية والمهنية والمستويات التعليمية، وينتشرون على رقعة جغرافية واسعة، مثلما كان الحال مع تنظيم «الجماعة الإسلامية». والبعض الآخر منها لا يعدو كونه جماعات صغيرة هامشية، تظهر بفعل الانشقاقات، أو عقب «هزيمة» الجماعات الكبرى نسبيا فى المواجهة مع السلطة أو فشلها فى تحقيق أهدافها، وطالما أنتجت الحركة الإسلامية الراديكالية على مدار العقود الأربعة الماضية تنظيمات صغيرة، محدودة الانتشار الجغرافى، ضعيفة الإمكانيات، حديثة النشأة، لا تملك رصيدا كبيرا من الإطار الفقهى النظرى الذى يبرر وجودها ويحدد علاقاتها بالمجتمع والدولة والجماعات الإسلامية الأخرى. ومن ثم اختفى أغلب هذه التنظيمات بعد مواجهة أمنية حاسمة أو القبض على قادتها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر هنا من هذه الجماعات الهامشية التى ظهرت فى ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم تنظيم «السمنى» و«الأهرام» و«جهاد الساحل» و«الواثقون من النصر» و«الغرباء» و«تنظيم أحمد يوسف» و«الفرماويون» و«الناجون من النار» و«الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» و«التكفير الجديد» و«أبناء الصعيد» و«النذير» و«التوحيد»، و«الشوقيون»، و«جماعة الفتح» و«الخلافة» و«جنود الرحمن» و«العصبة الهاشمية» و«مجموعة التسعين»، و«القصاص العادل»، و«القرآنيون» و«الجهاد الصحيح»، و«السماويون»، و«القطبيون». ومنها ما ظهر مع مطلع الألفية الثالثة مثل «تنظيم الوعد» وتنظيم «التوحيد والجهاد» الذى نسب إليه ارتكاب تفجيرات سيناء الثلاثة فى طابا وشرم الشيخ ودهب. ويمهد الوضع الذى آلت إليه الحركة الإسلامية الراديكالية فى مصر حاليا لظهور مثل هذه التنظيمات الصغيرة، التى لا يروق لها ما أقدمت عليه «الجماعة الإسلامية» من مراجعات، وما انتهى إليه تنظيم الجهاد المصرى من تشتت بعد تحالفه مع أسامة بن لادن تحت راية ما يسمى «تنظيم القاعدة». وإذا كانت التنظيمات والجماعات الرئيسية يسهل تعقبها، خاصة إذا لم تأخذ الشكل «العنقودى» على غرار تنظيم الجهاد، أو آثرت أن يظل جزء من نشاطها طافيا فوق السطح أو علنيا، كما كانت تفعل الجماعة الإسلامية، فإن التنظيمات الهامشية، التى تتكون حول قيادة صغيرة فى منطقة محدودة وترسم أهدافا بسيطة لوجودها، يصعب نسبيا على رجال الأمن اكتشافها، خاصة إذا برعت هذه التنظيمات فى أدائها السرى وامتلكت قدرة على المراوغة والتضليل وبناء حالة من التوافق الظاهرى مع المحيط الاجتماعى الضيق، لا يؤدى إلى استعداء الناس. والهزة الكبيرة التى أحدثها تراجع «الجماعة الإسلامية» عن أفكارها- وهو ما عبرت عنه الكتيبات التى أصدرها القادة التاريخيون للجماعة تحت اسم «سلسلة تصحيح المفاهيم»- أوجدت حالة من السيولة فى صفوف الشباب النازعين إلى العنف، والذين كان بوسعهم فى الماضى أن ينخرطوا فى صفوف الجماعة الإسلامية أو الجهاد دون مواربة، مستندين إلى ما حققته الجماعتان من تواجد اجتماعى، وما يحكم نشاطهما من إطار فكرى أو فقهى، وما لهما من أهداف شاملة ومقاصد بعيدة المدى وما لديهما من قدرة على تجنيد الأتباع. أما فى هذه الآونة فإن هاتين الجماعتين لم تعدا تمثلان مركزى استقطاب قويين لهؤلاء الشباب، ومن ثم فإنهم سيبحثون عن تنظيمات صغيرة، تستوعب طاقتهم «الغضبية». ويبرز عامل آخر قد يرشح تنامى ظاهرة التنظيمات الإسلامية الراديكالية الهامشية يرتبط بمسألة التمويل. ففيما سبق كان يمكن ل«الجماعة الإسلامية» و«الجهاد» أن يتلقيا دعما ماليا ملموسا من الخارج، سواء من قبل أفراد تابعين لهما أو متعاطفين معهما أو جماعات نظيرة أو مؤسسات تمارس نشاطها تحت اسم أعمال خيرية أو سلوك ذى طابع تراحمى أو حتى دول كانت تريد النيل من النظام المصرى أو تمهيد الأرض المصرية لأممية إسلامية. أما فى الوقت الراهن، ومع الجهد المحموم الذى تقوم به الولاياتالمتحدة فى تضييق الخناق على روافد تمويل «الإرهاب»، فمن الصعب على أى جماعة أن تتلقى دعما خارجيا، يساعدها على تحقيق أهدافها، منها الانتشار الجغرافى، وتقوية الشوكة فى مواجهة الدولة، وتدبير عمليات ضد السلطة والمجتمع، ومن ثم لم يعد أمام المتطرفين سوى تكوين تنظيمات صغيرة، تعمل تحت الأرض، وترتكب أعمالاً إرهابية خاطفة على غرار الحوادث التى وقعت فى ميدان السيدة عائشة والأزهر وعبدالمنعم رياض وكنيسة الزيتون وسيناء، طيلة العقد المنصرم. ونتائج التحقيقات التى جرت حول هذه الحوادث تشير إلى أن الجماعات المتطرفة الهامشية تأخذ طريقين: الأول، هو تكوين جماعات نووية تشكل أجزاء من تنظيم، لا تزيد على بضعة أفراد، يقودهم شخص من بينهم، يمثل همزة الوصل مع قائد التنظيم، أو «أميره» حسب اللفظ المتبع لدى الحركة الإسلامية الراديكالية. فقد أظهرت التحقيقات أن تنظيم الوعد مثلا مكون من ثلاث جماعات صغيرة جدا، يبدو أنها كانت تأخذ الشكل العنقودى، الذى اتبعه تنظيم الجهاد طيلة تاريخه. أما الطريق الثانى فهو أن هذه الهوامش تمثل محيطا لتنظيم إسلامى راديكالى أممى، مركزه خارج مصر. فقضية خلية حزب التحرير التى تم اكتشافها فى أواخر عام 2002، أظهرت أنه قد تم تجنيد مصريين فى ألمانيا ولبنان. ويمكن لهذه التنظيمات أن تتشكل وفق تحريض من «القاعدة» أو امتثال لأفكارها، وليس بالضرورة امتدادا جغرافيا لها يتلقى الأوامر والتكليفات والتمويل من «التنظيم الأم»، فمصر كانت مستعصية طيلة السنوات الماضية على «القاعدة»، فلم يُعلِن فيها فرعا له على غرار ما جرى فى العراق والمغرب العربى وغيرهما. ومع تهديد «تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين» للكنيسة الأرثوذكسية قبل شهرين، تلقت إحدى هذه الجماعات الهامشية، التى ربما تحولت إلى خلية نائمة للقاعدة، التوجيه ونفذت جريمة تفجير كنيسة القديسين. المسار الثانى- تغيير طارئ داخل السلفية الدعوية: فهذه السلفية تحالفت مع نظام الرئيس مبارك طيلة العقود الماضية، إما استجابة لما يقتنع به أتباعها من فقهٍ تم إنتاجه أيام الفتن والتظالم، يكرس «طاعة ولى الأمر»، أو فى ظل الارتباط التاريخى والتلازم المستمر فى جميع التجارب الإنسانية بين «التدين المحافظ» و«الاستبداد السياسى» أو لعجز القوى السياسية المعارضة فى اختراق التيار السلفى ولو جزئيا وجذبه بعيدا عن السلطة. وتوازى تحالف السلفيين الإسلاميين مع النظام مع تحالف الكنيسة الأرثوذكسية معه، التى كانت تقدم «الصوت المسيحى» قربانا للسلطة على عتبات كل انتخابات تشريعية أو تمجد الحاكم وتبارك اختياراته ومن بينها تأييد «التوريث». وقد استخدم أهل الحكم السلفيين والأرثوذكسيين فى تطويق وحصار المشروع السياسى ل«الإخوان المسلمين» وضرب «التيارين الليبرالى واليسارى» وإنهاكه، فى الوقت نفسه، بما قاد إلى احتكار السلطة. وفى الوقت الذى بدأ يتنامى فيه شعور بأن الكنيسة تتدلل على النظام الذى تقدم له خدمات مستمرة، بدأ «السلفيون» يضيقون بهذا التدلل، وبلغ ضيقهم مداه فى مظاهرات متتابعة خرجت من بعض مساجد الإسكندرية والقاهرة، تطالب الكنيسة بالإفراج عن السيدات اللائى يقال إنهن قد أسلمن واحتجزتهن الكنيسة فى أحد الأديرة. وربما سعى بعض هؤلاء إلى نقل الغضب من حيز القول إلى الفعل، فحرض أو جند أو قاد إلى تنفيذ حادث ضرب كنيسة القديسين، وربما اندس متطرفون فى صفوف السلفيين وغذوا هذا الاتجاه أو اتخذوا التيار السلفى ستارا لارتكاب هذه الجريمة، لاسيما أن هذا التيار ينعم برضا السلطة وحمايتها، الأمر الذى يوفر لمن يندس فى صفوفه وضعا أمنيا مريحا إلى حد كبير. وقد استغل هؤلاء المتطرفون أن التيار السلفى مفتوح أمام الجميع، بلا قيود ولا سدود، على العكس من التنظيمات الإسلامية المسيسة التى تدقق فى خلفية من يريد الالتحاق بها حتى تضمن ألا يزرع الأمن عيونا له عليها أو ينخرط فيها من لا يؤمن بأفكارها وتوجهاتها بغية تدميرها من الداخل. ومما يجب أن يقال إن الجدار القائم بين «الدعوى» و«الجهادى» لدى بعض أفراد التيار السلفى يمكن أن ينهار فى أى لحظة- والتجربة السعودية ماثلة للأذهان فى هذا المقام- فالسلفيون تحالفوا مع الدولة عقودا وتقاسموا معها الوظائف والمنافع، لكن هذا لم يمنع من انقلاب بعض أفراد التيار السلفى الوهابى على النظام الحاكم وارتكاب أعمال إرهابية ضد المصالح الأجنبية والمصالح الوطنية على أرض السعودية. ومن ثم فإن بعض أفراد التيار السلفى يمكن أن يكونوا قد استجابوا لشحن «القاعدة» وتحريضها ضد الكنيسة. المسار الثالث- طرف خارجى يسعى لضرب أمن بلادنا: فالشق الأكبر من الأمن القومى المصرى يقوم على ركيزتين هما: ضمان تدفق مياه النيل، واستمرار الوحدة الوطنية. الأولى تتزعزع حاليا بفعل سعى دول حوض النيل إلى إعادة النظر فى الاتفاقية التى تحدد توزيع حصص المياه. أما الثانية فقد أصابها مرض فى السنوات الأخيرة بفعل عوامل عديدة أنتجت حالة احتقان بين المسلمين والمسيحيين، وباتت مغرية لأى طرف خارجى كى يستغلها فى الضغط الشديد على أعصاب الأمن القومى المصرى. وإذا كان مدير «الموساد» قد اعترف بأن جهازه قد مارس دورا محوريا لتأليب دول حوض النيل ضدنا، وكذلك إثارة الفتنة الطائفية، فلن نكون قد تجنينا على إسرائيل- حسبما توهم بريت ستيفنس- إن وضعناها فى دائرة الاشتباه بارتكاب جريمة الإسكندرية، لاسيما أن الموساد ينشط بقوة حاليا فى العراق، وليس هناك ما يمنع أن يكون هو وراء التهديدات التى نسبت إلى «القاعدة» قبل شهرين بالاعتداء على الكنائس. فالقاعدة كتنظيم متماسك تهبط الأوامر فيه من أعلاه إلى أدناه لم يعد متواجدا، إنما بات أفكاراً سائلة وشماعة لأجهزة مخابرات عديدة فى العالم تفعل ما تريد ثم تعلق أفعالها على تلك الشماعة. وفى حوادث إرهابية كثيرة أتى التمهيد للفعل ثم تنفيذه وبعدها تبنى القاعدة له، فى ظل شكوك تساور الخبراء بأن القاعدة هى التى تقف حقا وراء تلك الحوادث. وضلوع طرف خارجى فى جريمة الإسكندرية لا يعنى تبرئة أطراف داخلية، إنما إرهابيو الداخل قد يكونون نفذوا العملية لحساب الخارج دون دراية، أو فى ظل أوهام بأنهم يعملون بطريقة مستقلة نابعة من أفكارهم واعتقاداتهم، فأجهزة الاستخبارات لا تتصل بالمتطرفين بطريقة مباشرة، إنما عبر حلقات متتابعة، لا يعرف بعضها بعضا على الوجه الأكمل، بحيث إن وصلنا إلى الحلقة الأخيرة، المتمثلة فيمن سينفذ الخطة، تكون الصلة قد انقطعت تماما بين مَن دبر عن بعد ومَن نفذ عن قرب.