من الصعب أن نتحدث بشكل نهائى وقاطع عن حادث ليلة عيد الميلاد بالإسكندرية، ما لم تتم معرفة مرتكبيه ودوافعهم، غير أن كثيراً من التحليلات تعاملت مع الحادث باعتباره حادثاً طائفياً، ووضعته فى سياق الاحتدام الطائفى، الذى يبرز بين حين وآخر، وهو ليس كذلك، نحن بإزاء عمل إرهابى، احترافى، قام به إرهابيون محترفون، واختيار المكان والموقع وتوقيت الحادث يكشف الكثير، ويجب القول إن «الملف القبطى» أو «ورقة الأقباط»، فضلاً عن أنه متخمر بالمشاكل، بات ورقة يستغلها كل من يريد إحراج الدولة، وإضعاف النظام.. يحدثنا د. عبدالستار المليجى فى مذكراته أن الطلاب الإسلاميين بالمدينة الجامعية فى المنيا، سنوات السبعينيات، كانت لديهم بعض المطالب من «جهاز الأمن» فأعلنوا أنهم سوف يقومون بذبح الطلاب الأقباط بالمدينة ما لم ينفذ الأمن مطالبهم، وتم التنفيذ، يكتب د. المليجى بما يوحى بأن ذلك الإعلان كان بتفهم مع الزملاء الأقباط، أى أن الأمر كان «كده وكده»، لكن يبقى المعنى صحيحاً، وهو اعتبار «الأقباط» نقطة ضعف وتهديد للدولة، وابتزاز بعض أجهزتها، فعل ذلك بعض الإسلاميين، وفعلته بعض الدوائر الغربية، تطلب الولاياتالمتحدة من مصر قاعدة عسكرية، ويرفض الرئيس مبارك ذلك رفضاً قاطعاً، فيخرج من الأضابير ملف الأقباط، وملف حقوق الإنسان، وينشط بعض ممن يسمون «أقباط المهجر».. وهكذا فى الداخل وفى الخارج يتلاعب الجميع بهذه الورقة، والمضار الفعلى فى النهاية هو المواطن المصرى القبطى، الذى عاش فى هذا البلد ولا وطن له غيره. لا ينفى ذلك وجود «تلوث ثقافى» تقوم عليه بعض فرق المتشددين والمتأسلمين، هؤلاء الذين يصرون على كراهية غير المسلم وتكفيره وإعلان الجهاد ضده، وإذا تحدثنا عن مصر، فالأمر يؤكد التلاحم بين المصريين، نعرف أن أقباط مصر تطوعوا وشاركوا فى الدفاع عن مصر ضد الحملات الصليبية، التى حاولت غزو دمياط ورشيد والمنصورة، وأن صلاح الدين أسقط الجزية عن الأقباط لهذا السبب، ونعرف أن المعلم جرجس الجوهرى شارك فى دعم ثورة القاهرة الثانية أثناء حملة بونابرت، لكن بعض المتشددين الإسلاميين لا يفقهون ذلك، ودليلنا ما حدث فى بغداد وفى الإسكندرية وفى نيجيريا، حيث ضبطت يوم الجمعة جماعة تنتمى إلى «بوكوحرام» كانت تخطط لأعمال إرهابية ضد المسيحيين فى ذلك البلد الأفريقى. وفى مصرنا العزيزة لم يقف الأمر عند هذا الحد، فأمام هؤلاء المتشددين، ظهر آخرون من المتأقبطين يرددون هراء عن الاستعمار العربى لمصر، وعن المسلمين الطارئين والأقباط الأصلاء.. ولو ترك العنان لهؤلاء وأولئك فلن يستريحوا إلا بتدمير هذا الوطن، فالإرهاب يبدأ بهدف قبطى، ثم يمتد إلى كل الأهداف، ذلك ما عايشناه فى تجربة الثمانينيات والتسعينيات، حيث بدأ الأمر باستحلال بعض محال الأقباط، ثم امتد حتى الطفلة شيماء، التى قتلت بلا ذنب فى حادث د. عاطف صدقى.. الهدف النهائى للإرهاب هو إحكام السيطرة على مصر كلها والمصريين جميعاً.. اليوم بدأ بالأقباط وغداً المسلمين، بدعوى أنهم لا يطبقون الشريعة، أو أنهم علمانيون أو أنهم يعملون فى أجهزة الدولة، ومن ثم فهم - عندهم - أعوان السلطان والسلطة.. القائمة نعرفها، وقد شربنا تلك الكأس من قبل. لم يقف التلوث الثقافى عند هذا الحد، بل امتد ليشيع حالة من الاستقطاب فى المجتمع، ساعد على ذلك ضعف وتراجع الدولة المدنية، مما أدى إلى خلق سلطات ومؤسسات موازية، تستقوى على الدولة، الأمر الذى أدى إلى إحباط البعض، وشعور البعض بالمرارة.. فى أزمات سابقة وجدنا المستشار طارق البشرى يكتب «مسلمون وأقباط فى إطار الجماعة الوطنية»، وبعده يكتب فهمى هويدى «مواطنون لا ذميون»، وحين ظهرت الشعارات الدينية، ذات الطابع الطائفى على السيارات كان هناك ميريت غالى ود.مصطفى الفقى يتصديان لذلك، وأخشى القول أن مثل هذه الروح بدأت تتراجع أو أصيب بعض أصحابها بالمرارة وربما التحول.. وإذا كان ذلك حدث على مستوى شخصيات عامة، فما بالنا بعموم الناس ورجل الشارع؟.. الأمر المؤكد أن المرارة لديهم أكثر وأعلى، وقد حدث شىء غير مسبوق فى الفترة الأخيرة، وجدنا مظاهرات تهتف ضد قداسة الأنبا شنودة أمام بعض المساجد قبل شهور، وفى الكاتدرائية المرقسية حدث شىء ليس بعيداً عن ذلك مع فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب حين ذهب لأداء واجب العزاء.. هذا الشحن النفسى والعاطفى يحدث منذ فترة، وأن يتم التحرش على هذا النحو بفضيلة الإمام الأكبر وقداسة البابا، هو أمر شديد الخطورة، يجب أن نضعه إلى جوار ما سبقه من نتائج التلوث الثقافى، وضعف الدولة المدنية أمام بعض مظاهر التشدد.