كلّما استحكمت حلقاتها سياسيا واقتصاديا نسمع مَن يستسقى السماء أن تمطر ذهبا أو يجد مصباحا سحريا، أو (طاقية إخفاء) تحقق ما تصبو إليه نفسه من عدل وتغيير عام وخاص. لتعود بى تلك الأمنيات الساذجة إلى ليل طفولة شتائى كنت أندسّ فيه بين أطفال الأسرة المحيطين بجدتى، تروى لنا حكاية طاقية الإخفاء المسمّاة فى العراق (كلاوْ «طاقية» الخنّاس) تتوسطنا مدفأة ينعكس لهيب شعلتها على وجناتنا كما الشمس ساعة غروب، تأخذنا نشوة دفئها، ورائحة (الحبّهان) المنبعثة من إبريق الشاى إلى أفق خيال سحرى، تعترينا بين لحظة وأخرى قشعريرة خوف تتصاعد وتنخفض حسب إيقاع الأحداث، تدفعنا للالتصاق بأحضان جدّتنا، كأننا أجنّة فى رحم أمان. فنستخلص من ذلك أنّ الخنّاس جنّى يتجسد مرتديا طاقيته الملونة عند شعور الإنسان بكابوس إثر تخمة أو قلق. ليستطيع مَن يتجسد له لو كان ذا شجاعة وخفّة يد خطف تلك الطاقية. ولأننى هائمة فى عوالم الحلم منذ ترعرع بين هُدبى، فقد راقت لى الحدوثة وأخذت تداعب أغصان الخيال وظننتها مفتاحا لحلّ معجزات، أولاها دخول البنك وأخذ مبلغ يحل مشكلة جارتنا الأرملة وعودة بيتها المهدد بالبيع فى مزاد، ثمّ الدخول إلى قصر الحكم والطلب من الرئيس أن يخصص إجازة رسمية يتيح لى بها السفر إلى البصرة مع أسرتى، وإغلاق أقسام الشرطة وسحبهم من الشوارع لما يشكلونه لى من رعب واستبدالهم بفرق الكشافة، والضغط على مدرّسة الرياضيات بإنجاحى لخيبتى فى المادة. لكل ذلك قررت خطف الطاقية بعد أن تناولت وجبة عشاء تجاوزت بها حدّ التخمة وحدّ التنفس الطبيعى ووجدتنى أتخبط بين ذلك وبين الهلع من (الخنّاس) المنتصب أمامى بطاقية ملونة ووجه بلا معالم، ليستبد بى الخوف فترتبط صرختى التى أفزعته بصرخته التى هزّت أرجاء البيت، وتمتد يدى إلى مصباح منضدى أقذفه به دون وعى لأذهب فى إغماءة أفقْت منها على رُقية جدتى وتمتمات الكبار وقهقهات الشباب المكتومة، وعلى وجه ابن خالى يعلوه الاصفرار ورأسه مربوط بضمّادة عليها بعض بقع دماء من أثر المصباح الذى شجّ رأسه، فقد كان هو (الخنّاس) الذى أفزعنى بدعابة كادت تؤدى إلى كارثة. كبرت ودارت بى رحى الحياة تذرونى تجارب وعِبَر فوق جسد الأيام، فأكتشف أن الكسل والخوف لا يحققان رغبة متمطية على سرير الاتكالية، وأن الحلم الذى أدمنت الحديث عنه ما هو إلا انتفاضة تحد فى جسد الضعف. فالحلم فكرة، والهدف أمل، وما بينهما عمل. يحدوه إيمان وطموح، وما ظننته فى الطفولة معجزة، تحقق دون طاقية كانت ستثقلنى بإثم كبير، فالجارة استعادت بيتها بمساعدة الجيران وما يحملونه من مروءة، والرياضيات نجحت فيها حين بذلت الجهد، والإجازة سمحت لى بها المديرة وسافرت مع الأسرة. أما العدل فلا يستتب ب(طاقية إخفاء) بل بصحوة ضمير، فمن لا يهتز لدمعة يتيم ولوعة أمّ ثكلى وحسرة أرملة واستغاثة مظلوم، ودماء، وأوصال، وخطف وسحل وأسْرٍ، فكيف له أن يستجيب لصوت خائف هزيل ينطلق من تحت طاقية؟ وكيف لصاحبها اقتحام حواجز ملغومة بألف جن وإنس وقمر مراقبة؟ الطاقية سلاح كسل وخمول فكر واسترخاء طموح، ووهم لا يصنع معجزة حياة وموت ولا يعيد مشاعر حب ووريت تربة كره. المعجزات لا يستطيعها سوى الله، وما دونها مستطاع لمن يمتطى جواد إرادة ويشهر سيف ثقة ويضع علم الوطن المطرّز بالولاء طاقية كرامة تضىء دروب الحق. إليك: يالحلم الراقد بين هدبى أمل.. يحرق سَناه كوابيس اليأس ينثرها رمادا فوق الأمس الصامت غيرة من يقظة كبرياء، يزغرد بهجة فى مولد عام جديد.. يالطيف المعْتَرِش تفاصيل الجمال المتخايلة على صفحة الكون، يالمتبختر فوق موجات البحيرات المتهادية دلالا. وبين رذاذ ثلجى يتساقط قلوب عذارى على جناحى كيوبيد العشق. يالمتسلل دفئاً بين صقيع الضلوع. إليك (كل عام وأنت بخير) مع باقة شجن وتنهيدة حنين.