كل شىء حولنا بات ملونا حسب الأهواء والرغبات والنزوات والحسابات والأطماع بشكل شديد المباشرة.. كل شىء بات مصبوغاً بصبغة ما.. وهكذا ضاع الاعتدال، وأصبح اليقين على هدف للمجتمع أو الفرد ضحية للتجاذب والتشتت.. فصار كل منا ينظر لمن حوله على أنهم كائنات زائدة على حاجته ما لم يكونوا أداة لتحقيق أطماعه. وهكذا ضاع الاعتدال.. وذهبت الحيادية من حياتنا.. كل شىء تلون ..الخبر .. الرأى.. الحكم.. الشهادة.. فى نشرات الأخبار.. فى الصفحات الإخبارية فى الأحداث اليومية فى حكمنا على كل ما حولنا، أصبح التطرف هو الحاكم فى كل شىء.. فى سلوكنا وفى حكومتنا وفى معارضتنا فى صداقتنا وفى حبنا وكرهنا. أصبحنا متطرفين.. إذا أحببنا أحببنا بتطرف.. وإذا كرهنا كرهنا بتطرف.. وإذا حاورنا حاورنا بتطرف.. وإذا عارضنا عارضنا بتطرف.. وإذا تقاتلنا تقاتلنا بتطرف.. وإذا دافعنا دافعنا بتطرف. تنازلنا عن فكرة الأمانة فى الطرح.. فى الوصف.. فى النقل.. فى الحكم.. مثلا - من فى مربع الحزب الوطنى يؤكد أن الانتخابات سليمة وجيدة.. ومن فى مربع المعارضة يؤكد أن الانتخابات مزورة والتجاوزات لا حصر لها.. وأخبار الوطنى بالصورة والصوت تشير إلى ذلك وتؤكده.. والمعارضة فى اللحظة نفسها تؤكد عكس ذلك تماما بالصوت والصورة أيضا، المسؤولون عن السياسة الزراعية يؤكدون بالأرقام والمستندات أن الزراعة فى مصر فى أحسن أوضاعها.. وأن الفلاح المصرى فى أزهى عصوره.. أما الواقع فيحكى لنا عن جنون الطماطم وهوس أسعار الخضروات.. ولن ننسى الاتهامات بين المستوردين للحوم ومربى الماشية والتجار والجزارين، الذين رفعوا أسعار اللحوم إلى الدرجة التى انحصر فيها دور وزارة التعاون الدولى فى نطاق مراقبة وتسهيل استيراد اللحوم من إثيوبيا، بينما الحالمون بدور هذه الوزارة يطالبون بأن تكون جسرا تتشارك فيه مصر مع العالم المتقدم فى التكنولوجيا وتبادل الخبرات.. وهذا يتكرر إذا تحدثنا عن مشكلة المياه.. عن الفتنة الطائفية.. عن المرور.. عن العلاج فى مصر.. عن البطالة.. عن التعليم.. عن مياه الشرب.. عن الجماعات الإسلامية.. عن الاستقرار.. عن الخصخصة.. عن بيع أراضى الدولة. فكرة الأمانة فى النقل والعرض.. فكرة الحيادية أو فكرة الحافة هنا أو هناك متسيدة.. لا أحد يعتد بفكرة المنتصف فى أى شىء.. إما أبيض أو أسود.. إما كرهاً أو حباً.. إما أميناً أو «حرامى».. إما وطناً أو عميلاً.. لماذا غاب عن قاموسنا الثقافى شىء اسمه الاعتدال؟ لماذا غابت الوسطية عن حياتنا؟ إن النظر إلى العالم من زاوية واحدة ورؤية الأشياء كما نريد وليس كما تبدو على أرض الواقع.. يرسم الصورة ناقصة أو مشوهة عن الأشياء والأمور والقضايا التى تدور من حولنا.. بل إنه يزيف الواقع تماما.. ويتحرك بنا هذا المنطق إلى الخلف. فعندما نتصور أن الصورة التى فى الذهن هى الحقيقة المطلقة، ولا جود لغيرها فإن هذا التصور يدفعنا إلى أن نتطرف فى الوقت الذى يجب فيه على العاقل أن يترك مساحة ما لأفكار ورؤى الآخرين من منطلق استحالة امتلاك الإنسان -أى إنسان- الحقيقة المطلقة.. فلماذا أتطرف لصالح ما أراه ولا أترك الباب مفتوحا للعقل والوجدان، ليستوعبا الرؤى الأخرى بغض النظر عن قناعتى بها أو رفضها.. تذكرت قصة قديمة رواها أحد الأدباء عن مجموعة من «القنافذ» اشتد بها البرد ذات ليلة من ليالى الشتاء فاقتربت من بعضها وتلاصقت طلبا للدفء والأمان، فآذتها أشواكها، فأسرعت تبتعد عن بعضها ففقدت الدفء والأمان.. فعادت للاقتراب من جديد بشكل يحقق لها الدفء ويحميها فى الوقت نفسه من أشواك الآخرين، ويحمى الآخرين من أشواكها.. فاقتربت ولم تقترب .. وابتعدت ولم تبتعد.. وهكذا حلت مشكلتها وأنا أسأل: هل يمكن أن نصل فى حياتنا لنقطة المنتصف هذه.. نقطة الاعتدال.. التى وصل إليها حكماء القنافذ.. لكى تصبح حياتنا أكثر احتمالا.. وأكثر احتراما.. وأكثر إنسانية.. وأكثر اعتدالا؟!. [email protected]