2- الدلالات عرضت فى مقال الأسبوع الماضى لمحنة صابرين دياب، الصحفية الفلسطينية من الأرض المحتلة قبل عام 48، والتى تعرضت لتحقيق وتفتيش ومعاملة مهينة من قبل ضباط أمن إسرائيليين فى مطار القاهرة وهى فى طريقها للعودة إلى وطنها بعد زيارة عمل قصيرة لمصر. وقد تعمدت أن أترك صابرين تحكى محنتها بقلمها، بالاقتباس نصا من رسالة مفصلة طلبتها منها واستجابت لها مشكورة، كى تصل مشاعرها إلى القارئ مباشرة وبلا وسيط. واليوم جاء دورى للتعليق على ما ورد فى حكايتها المذهلة التى أشرت فى تقديمى لها إلى ضرورة التمييز بين أبعاد ثلاثة: الأول: إنسانى، يتعلق بامتهان كرامة إنسان تحت ذريعة «دواعى الأمن»، بصرف النظر عن الجهة التى ارتكبت الانتهاك أو المكان الذى وقع فيه. والثانى: قانونى، يتعلق بوجود ضباط أمن إسرائيليين داخل مطار القاهرة ومدى مطابقته للأعراف والقوانين الدولية المعمول بها. والثالث: سياسى، يتعلق بالتأثيرات المحتملة لتواجد أمنى إسرائيلى مكثف داخل مطار القاهرة سواء فيما يتعلق بسياسات مصر الداخلية أو سياستها الخارجية وأمنها الوطنى. ولاستخلاص الدلالات العميقة لمحنة صابرين، بأبعادها الثلاثة، يتعين الفصل بين ما تحتوى عليه رسالتها المؤثرة من معلومات وحقائق مجردة، وهو ما لا يتعين أن يختلف عليه أحد، وتفسير دلالات هذه المعلومات والحقائق، وهو ما قد تتباين حوله وجهات النظر. أما الحقائق، فيمكن إجمالها فى ثلاث: الحقيقة الأولى: تتعلق بأماكن تواجد الضباط الإسرائيليين فى مطار القاهرة وبمهامهم. فهؤلاء الضباط لم يقوموا بما قاموا به عند مدخل الطائرة الإسرائيلية، أو فى أماكن مخصصة لشركة العال داخل مطار القاهرة، وإنما بدأوا فى مباشرة عملهم فور ولوج صابرين من بوابة دخول الركاب، واستمر حتى صعودها إلى الطائرة. فقد بدأوا معها تحقيقا فى بهو المطار نفسه، على مقربة من رجال الأمن المصريين ودون تدخلهم، واقتادوها إلى قاعة، أُغلق بابها عليهم، لتفتيشها ذاتيا مع أمتعتها، ثم اصطحبوها إلى مكتب الجوازات فقاعة الانتظار المخصصة لتجميع الركاب، تمهيدا لنقلها إلى الطائرة. الحقيقة الثانية: تتعلق بسلوك الضباط الإسرائيليين فى مطار القاهرة. فقد أخضعوا الصحفية الفلسطينية لاستجواب أمنى، شمل أسئلة عن الأشخاص الذين قابلتهم فى مصر، والجهة التى تكفلت بنفقات رحلتها، والأشياء التى اشترتها والكتب التى أهديت لها... إلخ، ثم خضعت بعد ذلك لتفتيش ذاتى وصل إلى حد إجبارها على خلع ملابسها وتفتيش دقيق لكل محتويات حقائبها، بما فى ذلك فتح ثمار الجوافة التى حملتها معها. الحقيقة الثالثة: تتعلق بالمحنة الشخصية والإنسانية. فما تعرضت له صابرين لم يكن عملية تفتيش عادية قُصد بها التأكد من عدم حملها لما قد يهدد أمن وسلامة الركاب والطائرة، وهو أمر طبيعى يحدث فى كل مكان، وبدأ ركاب الطائرات يتقبلونه تدريجيا كإجراءات أمن وقائية باتت ضرورية بعد أحداث سبتمبر، وإنما لعملية انتهاك متعمد لحقوقها كإنسانة، وإهانة مقصودة تفوح منها رائحة العنصرية وصلت إلى حد محاولة الإذلال المتعمد مع سبق الإصرار، وهو ما تسبب فى بكاء صابرين عدة مرات. أما فيما يتعلق بدلالات ما وقع، فدعونا نتوقف قليلا عند بعده الإنسانى أولا. إذ يجب أن ندرك أن أكثر ما آلم صابرين حقا، وأصابها بجرح غائر وصل إلى أعمق أعماق نفسها، لم يكن وقاحة سلوك إسرائيلى اعتادت عليه كثيرا، وتتوقعه دائما ممن اغتصبوا وطنها، حيث يقومون بارتكاب ما يماثله يومياً ضد كل فرد من أبناء شعبها الصامد فى مواجهة أسوأ أنواع الاحتلال الاستيطانى والعنصرى، ولكن حدوثه على أرض دولة تحبها إلى حد العشق وتدرك أهميتها للقضية الفلسطينية. لأنها لم تكن تتصور أن الاختراق الإسرائيلى لمصر وصل إلى هذا الحد، فقد كان من الطبيعى أن يكون وقع الصدمة شديدا ومفاجئا. فإحساسها باليتم، خاصة لحظة أن طلب منها جنود إسرائيليون خلع ملابسها فى مطار القاهرة، لم يكن نابعا فقط من مشاعرها كامرأة تتعرض لما يشبه الاغتصاب، ولكن من إحساسها كفلسطينية تُنتهك كرامتها من جانب جنود إسرائيليين على أرض أكبر دولة عربية، ويكفى هذا مبررا فى حد ذاته ليس فقط لتعاطف مصر كلها مع صابرين وإنما للاعتذار لها أيضا. غير أن البعد الإنسانى لحكاية صابرين، على أهميته، يجب ألا يلهينا كمصريين عن أبعاده القانونية والسياسية الأكثر خطورة، لأنها تمس بسيادتنا كدولة وبكرامتنا كشعب. فمن الناحية القانونية البحتة يعد مفهوم السيادة إحدى أهم خصائص الدولة المستقلة. والسيادة تعنى، ضمن ما تعنى، القدرة على تطبيق قوانين الدولة المعنية على كل شبر من أرضها وكل الأشخاص الذين يقيمون على هذه الأرض، سواء كانوا مواطنين أم أجانب. وأى استثناء على هذه القاعدة يجب أن يكون له ما يبرره موضوعيا، وأن يتم من خلال اتفاق أو معاهدة دولية تقوم على أساس المعاملة بالمثل. فإذا طبقنا هذه المعايير على الحالة التى نحن بصددها فسوف يتأكد لنا أننا إزاء وضع شديد الغرابة والاستثنائية ويتنافى مع كل الأعراف والقوانين الدولية. فحتى بافتراض وجود بروتوكول موقع بين مصر وإسرائيل يمنح شركة العال مزايا معينة لضمان فاعلية الإجراءات الأمنية، وهو ما لم يتأكد لنا وجوده وبالتالى لم يتح لنا الاطلاع على نصوصه، إلا أن هذه الإجراءات يتعين أن تتطابق مع أعراف وقوانين دولية توفر لها شروطا معينة، فى مقدمتها: 1- أن تتم هذه الإجراءات فى أماكن مخصصة لذلك ومحددة، لا تتجاوز عادة الطريق أو الممر المؤدى إلى جسم الطائرة وفى داخلها. 2- وبحضور رجال أمن الدولة المضيفة وتحت إشرافهم. 3- وألا تشكل انتهاكا لأى اتفاقات أو معاهدات دولية، خاصة ما يتعلق منها بحقوق الإنسان. أما «حكاية صابرين» فتؤكد أن الأمن الإسرائيلى كان يتجول بحرية تامة فى مطار القاهرة، وكان بوسعه إجراء تحقيقات تتجاوز الرغبة فى تأمين الطائرة، ومع مسافرين مازالوا متواجدين على أرض مصرية ويخضعون بالتالى للقانون المصرى، حتى ولو كانوا يحملون جوازات سفر إسرائيلية، وفى أماكن بدا وكأنها تخضع لسيادتهم المنفردة. فقد كشفت قصة صابرين عن مدى ما يتمتع به الأمن الإسرائيلى من حرية التجول فى قلب مطار القاهرة والاحتماء بأماكن يحظر على الأمن المصرى ارتيادها أو الرقابة على ما يجرى بداخلها، وهو ما ينطوى ليس فقط على مساس خطير بالسيادة بل يشكل فى الوقت نفسه إهانة للكرامة الوطنية. ولكى نعى حقيقة التحول الذى طرأ على العلاقات المصرية - الإسرائيلية منذ سنوات، يتعين عدم الخلط بين مفهوم «تطبيع العلاقات» كما ورد فى معاهدة «السلام» المبرمة عام 1979، والحالة القائمة حاليا بين البلدين، والتى ألقت حكاية صابرين أضواء كاشفة وساطعة عليها. ولأنه لا يوجد نص فى المعاهدة يلزم مصر بمنح إسرائيل معاملة تفضيلية أو استثنائية فى أى مجال من المجالات، فمن الطبيعى أن تثور تساؤلات حول الأسباب التى أدت إلى تغير موقف النظام المصرى من إسرائيل فى السنوات الأخيرة، مقارنة بما كان عليه الحال خلال السنوات الأولى لحكم الرئيس مبارك. ويلاحظ أن وسائل الإعلام الغربية كانت قد دأبت على إطلاق مصطلح «السلام البارد» للتعبير عن حالة العلاقات المصرية - الإسرائيلية فى بداية عهد مبارك، لكنها كفّت الآن عن استخدامه. فقد شهدت هذه العلاقات فى الآونة الأخيرة تحسنا ملحوظا إلى درجة إقدام النظام المصرى ليس فقط على بيع الغاز لإسرائيل بثمن بخس وإنما أيضا مشاركة إسرائيل فى إحكام حصارها على قطاع غزة، بل تحريضها على شن حرب على القطاع للتخلص من حكم حماس. كنت قد ألمحت من قبل، مرارا وتكرارا، بل تحدثت صراحة وبشكل مباشر، عن وجود علاقة سببية بين ظهور جمال مبارك على المسرح السياسى المصرى وعملية «التسخين» التى شهدتها العلاقات بين النظام الحاكم فى مصر فى عهد مبارك والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتى كانت تزداد سخونة باطراد مع قرب دخول مشروع «توريث السلطة» مراحله الأخيرة. صحيح أننا لا نملك دليلا على وجود علاقة سببية بين المسألتين، ولم تفصح «وثائق ويكيليكس» التى نشرت حتى الآن عن وجود مثل هذه العلاقة، لكنها تبدو منطقية تماما فى غياب سند أو ظهير شعبى للنظام ولمشروع التوريث معا. ففى نظام يصر على نقل السلطة من الأب إلى الابن، ويدرك يقينا رفض الشعب المصرى خطوة من هذا القبيل، من الطبيعى أن يحاول استرضاء القوى الخارجية، خاصة إسرائيل والولاياتالمتحدة، بتقديم «رشاوى» تفتح شهيتها للمساعدة فى تمرير مشروعه. لكن أحدا لم يكن يتصور أن تصل الأمور إلى حد التفريط فى السيادة إلى حد السماح لضباط أمن إسرائيليين بالتجول فى مطار القاهرة والإقدام على ممارسات قد لا يستطيعونها فى مطار بن جوريون نفسه. من المثير حقا أن تتكشف «حكاية صابرين دياب» فى وقت أصرت فيه الحكومة المصرية على رفض الرقابة الدولية باعتبارها تدخلا فى شؤونها الداخلية ومساسا بسيادتها!. لذا أرجوكم ألا تصدقوا الانتقادات الأمريكية لممارسات النظام فى الانتخابات التشريعية، لأنها مجرد مسرحية هزلية لتوزيع الأدوار. فقد سبق لإسرائيل منح الضوء الأخضر لمشروع التوريث. ولأن نظامنا يدرك يقينا أن إسرائيل عندما تعد لا تملك الولاياتالمتحدة سوى أن ترضخ فى النهاية، فمن الطبيعى أن يبدو واثقا من نفسه إلى درجة الإدلاء بتصريحات نارية ضد التدخل الأمريكى فى شؤون مصر الداخلية!. حقا اللى اختشوا ماتوا!.