صديق عزيز وكريم يتصل بى تليفونيًا فى مكالمة طويلة حارة، يقول إنه يؤمن إيماناً تامًا بما أبديه من آراء وتجديد فى صميم الإسلام وجوهره وروحه، ويشهد أن هذه الكلمات جذبت للإسلام مجموعة من نخبة المثقفين كانوا قد عزفوا عن الإسلام ونفضوا اليدين منه لما رأوه من تزمت وتعنت وبُعد عن العقل وإعمال الخرافة ورفض للعصر الذى يعيشون فيه. ولكن.. فى الوقت نفسه فإن هذه الاجتهادات قد أبعدت مجموعة عريضة قد لا تكون منغلقة، ولكن تطرق إليها فهم مشوه لهذه الاجتهادات، إما لأن الصحف تزيد وتضيف وتقول ما فيه الإثارة أو ترديدًا لأقوال سمعوها ممن يتكسبون بالإسلام ويعملون له بحكم الوظيفة، ولا يريدون من آخر أن يتكلم عنه، وحملنى مسؤولية انصراف هذه المجموعة عن المشروع المتكامل لى، وذكرنى بأن الرسول نفسه كان يحجم عن أمر كان يريده لأن قومه كانوا حديثى عهد بكفر، كما قال لعائشة، لأنه لم يكن يريد أن يصدمهم. وضعنى الصديق العزيز فى مأزق خاصة بعد استشهاده بالرسول، لأن الأمر لم يعد يتعلق بالصحة الموضوعية، ولكن بدرجة المواءمة مع الفكر السائد. إننى عندما أعلنت هذه الاجتهادات، إنما قمت بذلك لأنى أؤمن أن المفكر يجب أن يكون أميناً على الحقيقة كلها فلا يظهر بعضها دون البعض الآخر حرصًا على عدم المعارضة أو لكسب الأنصار، وليس له أن يصانع على حسابها لأى سبب من الأسباب، لا رغبة.. ولا رهبة، وعلمنا الإسلام ألا نبخع أنفسنا (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)، لأن الهداية هى من الله وحده وإنما علينا البلاغ المبين والأمين. ونحن لا نعمل لكسب جمهور، بل نرى أن الجيل الحالى يعجز عن استيعاب ما ندعو إليه، فهو جيل مقهور تكالبت عليه قوى الحكم المستبد، وقوى الاستغلال الاقتصادى التى فرضت عليه الفاقة وقوى التعليم الفاسد الذى أثمر البطالة، فلم يستطع أن يفعل شيئاً أمام هذه الظلمات، بعد أن تفككت كل الآليات التى كان يمكن عبرها أن يعبر عن غضبه فاستلحقت النقابات، وحُظِرت الأحزاب، وفرضت الرقابة على الصحافة. إن تقديرى لكلام الصديق، ولما فيه من أهمية هداية وليس كسب مجموعات عريضة من الناس جعلنى أقوم بمحاولة جديدة هى أن أضع الكرة فى أيدى المعارضين حتى يتخلصوا من قرارات متسرعة وأحكام جزافية. أقول لهذه المجموعة إنكم أحرار تمامًا فى قبول أو رفض ما قدمناه من اجتهادات، ولكن ليس معنى هذا أن تحرموا أنفسكم من ثمار تفكير قد يكون جديدًا عليكم، ولكنه ليس مخالفاً للإسلام. أقول لهم هل نسيتم أن التجديد وليس التقليد هو سُنة الحياة وميزة الإنسان، وأن الرسول نفسه هو أول من نطق بكلمة تجديد عندما قال لأصحابه : «جددوا إيمانكم»، وعندما قال «إن الله ييسر لهذه الأمة من يجدد لها دينها على رأس كل مائة عام». وهل نسيتم التوجيهات القرآنية العديدة «اقْرَأْ»، «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ»، «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وضرورة استخدام العقل و«وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً». أقول لهم أين أنتم مما قال الله «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». انظروا إلى أمانة القرآن وحرصه على العدالة وعلى الحقيقة وعلى الموضوعية، فهو يأمر المسلمين ألا تحملهم العداوة على مجاوزة العدل «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». إن جمال البنا أمضى حياته قارئاً.. كاتبًا، وقد كتب قرابة 150 كتابًا، فهل تظنون أن ليس فى هذه الكتب كلها خمسة أو ستة تقدم جديدًا أنتم فى حاجة إليه. وقد نشأ فى مهد السُنة فوالده أمضى 35 عامًا متصلة فى وضع أكبر موسوعة للحديث النبوى هى «مسند الإمام أحمد بن حنبل» فبعد أن صنفه على أساس موضوعات الفقه وهى المهمة التى لم ينجح فيها الأئمة الأعلام طوال ألف عام، قام بشرح كل حديث وتخريجه، والأحكام منه، وقد صاحبه جمال البنا أكثر من بقية أبنائه، وكان هو الذى أشرف على إتمام هذا العمل عندما مات والده فى منتصف الجزء الثانى والعشرين، فأشرف على إصدار الجزءين 23 و 24، وقد سمع جمال البنا من فم والده أحاديث لم يجدها فى معظم كتب الأحاديث. وبقدر ما كان جمال البنا أثيرًا لدى والده بقدر ما كان أثيرًا لدى شقيقه الأكبر الإمام الشهيد حسن البنا الذى كان مدرسًا له فى الدراسة الابتدائية، وأوكل إليه بعض الأعمال الإدارية، بل جعله سنة 1948سكرتير تحرير مجلة «الشهاب»، وهى المجلة التى تمثل قمة النضج فى أفكاره. فكيف تطرق إلى ذهنكم بعد هذا كله أن جمال البنا قد يكون بعيدًا عن الإسلام أو معارضًا له! لقد قيل لكم إنه يبيح للشبان والشابات تبادل القبلات، وهذا كذب وادعاء، فقد قال إن الشباب قد انحرف لأن الآباء والأمهات ضربوا عرض الحائط بحديث الرسول «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه.. إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير»، فرفضوا الخاطب الفقير وطالبوه بمهر كبير وشقة كاملة وأثاث، وهو يعجز، فلم يستطع أن يتزوج وظل عشر سنوات أو أكثر عازبًا، والشىء نفسه للفتاة، فكان من آثار هذه المخالفة للحديث أن حدثت فتنة وفساد كبير كما تنبأ الرسول كرد فعل لفعل سيئ، وهو أمر لابد أن يحدث وقد حدث وأخذ الشبان والفتيات يتناولون القبلات، وفى بعض الحالات ينزلقون إلى ما هو أقسى، أو يلجأون إلى صور شاذة من الزواج. وقلنا إن القبلات تعد من «اللمم»، وهى صغار الذنوب التى يُجبها الاستغفار وفعل الحسنات، وهذا هو ما قاله المفسرون جميعًا للآية «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ»، ونقلنا عن كتب التفسير ما قالوه من الطبرى حتى سيد قطب عن اللمم وأنه القبلة والضمة وما دون الزنى. وقالوا إن جمال البنا ينكر حد الردة وهذا صحيح، ولكنه لم يأت بهذا من عندياته، وإنما من عند القرآن الكريم الذى ذكر الردة مرارًا وتكرارًا ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية، ومن عند الرسول الذى ارتد على عهده بعض المسلمين فلم يستتبعهم بعقوبة، ومن النصوص العديدة من القرآن عن حرية العقيدة والدين «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، «فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا». إن حرية العقيدة هى إحدى المفاخر التى انفرد الإسلام بها، ويريد المتكسبون من الإسلام أن يحرموه منها لمصلحتهم الخاصة. نأتى إلى ثالثة الأثافى وهى فى الحقيقة رغم أنها أقامت الأرض وأقعدتها أبسطها، وهى أن التدخين لا يبطل الصيام، لقد أردت أن أؤكد مبدأ أساسيًا يتميز به الإسلام، هو أن التشريع، والتحليل والتحريم ينفرد به الشارع نفسه، ومن ثم فلابد أن يكون هناك نص صريح من القرآن لا يقبل تأويلاً، هذا هو التحريم الشرعى صاحب القداسة الإلهية، وبالطبع لم يأت فى القرآن شىء عن السجائر، وما حرمه الله هو الأكل والشرب والمخالطة الجنسية، وثمة قاعدة أخرى هى أن الأصل فى العبادات التوقيف فلا يزاد عليها ولا ينقص منها، وطبقاً لهذا فليس هناك تحريم شرعى إلهى من قرآن أو سُنة لتدخين السجائر فى رمضان، قد تقولون إنه لابد من موقف بالنسبة للمستجدات يعالج بالقياس أو الإجماع، والقياس يخطئ ويصيب، أما الإجماع فلم يحدث، بل إن ابن عابدين وهو من أئمة الحنفية أجازه، وهناك فقيه شيعى يقول إنه يكره السجائر كراهة تحريم، ولكن لو أن أحدًا دخن فى رمضان فإنه ارتكب إثمًا دون أن يفسد صيامه، وحكاية أنه ضار لا يتطلب أن يحرم فى نهار رمضان، هناك أمور عديدة ضارة ولا نحرمها فى الصيام أو نرى أن علاجها بالصيام، وعلى كل حال فقد قلنا إن من يستطيع أن يصوم ويمتنع عن التدخين دون أن يؤثر هذا على عمله فهو أفضل من أن يدخن، وأن هذا الاجتهاد أريد به قلة أصبح التدخين لديها عادة لا يمكن التحلل منها، وهذه القلة (ملايين) إذا جاء رمضان، فإنها إما أن ترفض الصوم لأنها لا تطيقه دون تدخين فتفطر وتأثم، وإما أنها تدخن سرًا وتدعى غير ذلك .. فتكذب وتنافق، وهذا إثم قد يكون أعظم من الإفطار، وإما أنها تضغط على أعصابها فتصوم، ولكن دون أن تؤدى عملاً أو تقدم إنتاجًا، وإنما هى تقضى النهار فى النوم أو مشاهدة التليفزيون، والضحية هنا هى مصالح الناس ومصلحة الإنتاج، فجئنا وأبحنا لهذه القلة أن تدخن بضع سجائر دون أن ينتهك صيامها. * * * مع أننا شرحنا وجهة نظرنا فيما أطلقوا عليه «الفتاوى الصادمة» فنحن لا نريد أن تؤمنوا بها، إن لكم كل الحرية فى أن ترفضوها وأن تقذفوا بها إلى البحر. ولكن ما نريده منكم هو أن تؤمنوا أن المرجعية الإسلامية الملزمة هى الله والرسول وأن اجتهادات السلف والمذاهب الفقهية.. إلخ، ليست ملزمة بالضرورة لأن هذا يؤدى إلى وجود «رجال دين»، وكنيسة يحمل أفرادها العمائم ويملكون التحريم والتحليل، وقد جاء الإسلام للقضاء على هذا. وأن تؤمنوا أن الإسلام جعل الإنسان خليفة على الأرض وسخر له مواردها وأنزل الأديان لهدايته. وأن تؤمنوا أن الإسلام دين العقل، وأن ما يثبته العقل يثبته الشرع، وما يثبته الشرع يثبته العقل لأنهما معًا من الله. وأن تؤمنوا أن الإسلام دين الحرية فى الفكر والاعتقاد وهو دين العدل فى العمل وما بين الناس من علاقات، والمساواة بين الناس جميعًا، وأن يكون أفضلهم أتقاهم . وأن تؤمنوا أن الإسلام وضع الأصول لتحقيق هذا، وعندما يؤمن بها الشعب فيصلح نفسه وأوضاعه، وبهذا ينصلح الحال «أمة.. ودولة» بشرط أن يأتى هذا بطريقة طوعية ومن الشعب نفسه، وليس من الحكومة. هذه هى كليات الإسلام، أما القضايا «الفروعية» و«الجزئية» فلا يضير الخلاف فيها، ولا هى تحكم على الكليات. [email protected] [email protected]