يبدو أننى أصعد بنفسى إلى صليب الحلَّاج، لأن لغتى غامضة وملتبسة ومواقفى تراعى النزعة المنهجية والفلسفية أكثر مما تراعى الواقع المباشر أو نظرية «هات م الآخر»، فأنا لا أعرف «آخرتها» حتى أجيب لكم منها، فالمصائر كلها مجهولة، ولا يستطيع عاقل أن يستنبط أى سيناريوهات مستقبلية وسط كل هذه الفوضى غير الخلاقة، وأذكر أننى منذ كام سنة كتبت مقالاً تعليقاً على دعوة كوندوليزا رايس بضرورة العمل من أجل شرق أوسط جديد، وأعلنت فيه أننى أصبحت أخاف من كلامى، لأنه يشبه فى ظاهره كلام آخرين لا يجمعنى بهم أى شىء، بل يشبه أحياناً كلام الأعداء أنفسهم.. وفى الأسبوع الماضى كتبت مقالا حملت فيه بشدة على اليسار، ووصلتنى تعليقات كلها للأسف تؤيدنى فى الهجوم، وشعرت أن بريدى الإلكترونى تحول إلى سرادق عزاء فى وفاة اليسار، وهو ما لم أحبه ولم أتوقعه.. كنت أرجو أن تكون كلماتى العنيفة مثار اعتراض أو عتاب لأننى وضعت الملح على الجرح، أو حتى تبرير ومهاترات «حنجورية» توحى لى ولغيرى بأن الجثة الممدة فى ساحة العمل السياسى مازالت تنبض، وأنها قادرة على الكلام أو الإحساس أو حتى التوجع، لكن مظاهر الغيبوبة كانت أوضح، ربما تصحبها هلاوس وحركات تململ لا إرادية، لكن الحالة سيئة، وتحتاج إلى تغيير جذرى فى أسلوب العلاج، وأول وأبسط تغيير أن نوقف خدعة نقل الدم إلى المريض عن طريق سحبه من جسده ثم إعادته إليه، لابد من الانفتاح الواسع على الجمهور الحقيقى لليسار وهو جمهور عشنا عقوداً نتحدث بالنيابة عنه، ونزين به نقاشاتنا، ثم اكتشفنا أنه لا يدرى بنا ولا يثق فينا، وأنه أقرب إلى الآخرين - كل الآخرين - منا، فهو يهجرنا إلى اليمين، الدينى منه والليبرالى، بل يفضل علينا صحبة المقاهى وبضاعة تجار المخدرات، ويعتمد فى ثقافته السياسية على حوارات سوق بيزنطة المنصوبة فى فضائيات معلقة بين أموال الكانتونات ومواثيق أنس الفقى. ومن منطلق النقد الذاتى وتفنيد خسارة رهان الجماهير أعلنت غضبى على اليسار، وسوف أواصل النقد الغاضب حتى ينصلح الحال، واليسار بالنسبة لى ليس الشيوعيين والماركسيين والمنتظرين لاندلاع ثورة البروليتاريا من «كريم الدولة»، لكن أيضاً الناصريين والقوميين وكل من يحمل نزعة تحررية وتقدمية تجعله على يسار نظام من السهل جداً أن تكون على يساره، حتى إن عادل إمام يا راجل بيطلع فى أفلامه وكلامه يسار رغماً عن نفسه، والمصيبة إن النظام ذاته بيوهم الشعب إنه على يسار نفسه، يعنى كله يسار ما عدا اليسار. لقد وقع هذا التيار النبيل (سابقاً) فى قبضة حفنة من المنتفعين بالعمل السياسى، بعضهم سقط فى إغواء أجهزة السلطة وصار ينفذ السياسات الأمنية بنفسه، مرة تحت مظلة التعاون ضد الظلامية والإرهاب، ومرة بحكم «البرستيج» والحفاظ على موقعه الحزبى والسياسى من الانشطارات والإطاحات التى تخصصت فيها الفرق الأمنية داخل الأحزاب والتيارات، ومرات بحكم التكلس الفكرى والعقم الحركى، والارتكان إلى أساليب قديمة لم تعد تجدى أمام التطور المذهل فى آليات العمل الجماهيرى التى تلقفها اليمين، والشباب الحر الناقم على العمل السياسى التقليدى، فيما يكتفى دهاقنة اليسار بالكهنوت المعرفى والحديث عن الجديد من دون ممارسته، ولهذا انتقدت، ولهذا سأواصل النقد، فانهضوا أو موتوا. ملاحظة: هذا المزاج العكر فى الكتابة سببه شهر نوفمبر، الذى تعترينى فيه تغيرات كيميائية، يعرفها أصدقائى ويسمونها «مود نهاية العام»، وأعرّفها أنا وأسميها «بداية موسم المراجعات السنوية»، وعلى المستوى السياسى يكفى أن هذا الشهر أوله «وعد بلفور» وآخره اعتراف الأممالمتحدة بإسرائيل كدولة يهودية، وأوسطه زيارة السادات لإسرائيل، التى تمر ذكراها ال33 اليوم.. فيه عكننة أكتر من كده؟! [email protected]