لسبب أو لآخر، كان والدى يأخذ إجازة طوعا، على كراهيته للإجازات، ويرتدى أفضل ثيابه، الحتة إللى على الحبل، حتة كشمير معتبر، بأكمام واسعة، وصديرى صف زراير من نفس القماشة الغالية، كنت أسميها ساخرا «جلابية الاستفتاء»، كانت والدتى، الله يرحمها، تحافظ على الجلابية زى عنيها، تكويها وتلفها، وتزودها بالنفتالين خشية العتة، وتحتفظ بها فى صندوقها الخشبى من الاستفتاء إلى الاستفتاء.. جلابية الاستفتاء ورثتها عن والدى ولكن لم أرتدِها حتى الآن بعد تغيير الدستور من الاستفتاء إلى الانتخاب، الانتخابات لا تناسبها الجلاليب الكشمير، الانتخابات صارت تقطيع جلاليب ودق رؤوس وشراء نفوس. بالحساب، والدى عمر طويلا، كفانى والدى مؤونة التصويت حتى آخر العمر، كثيرا ما صوت، من كثرة ما صوت دابت مناديله، أقصد بطاقته الانتخابية الوردية، رفض تجديدها لأنه حتما ولابد سيذهب إلى القسم.. وهو من هو، عاش ومات وإحدى مآثره أنه لم يدخل القسم لا شاكيا ولا مشكوا، كان يصوت خشية الغرامة التى يضطر معها إلى دخول القسم. يرحمه الله كان رجلا صالحا، لم يتعاط السياسة، ولم يكن يساس أو يسوس ولا يسيس، لم يعرف فى حياته سياسيا إلا المرحوم نصر عبدالغفور، المرشح الدائم للحزب فى منوف، كان نصر بيه رمز الشمسية، وكان بيوزع شماسى أبيض وأسود فى الانتخابات، كانت الانتخابات فى بلدتنا أقرب للانتخابات البريطانية، طوابير المصوتين تقف بالشماسى تحت زخات المطر. يرحمه الله أدى واجبه الديمقراطى حسب فهمه، حسب قدراته، خشية الغرامة، كان يصوت، وكان هذا حسنا، ويوصينى بالتصويت، وبالحرص على بطاقة الانتخابات، وجلابية الاستفتاء، نعم الرجل كان ديمقراطيا، لكن جاء وقت يتهمه السفهاء بالسلبية والاتكالية والقعود والركون، يتنطع الأبناء، يجحدون الآباء، يجلدونهم بسطور وطنية، يلومونهم ليل نهار، وينهالون على كرامتهم بكرابيج الكلم، يتقافزون على أكتاف شعب كريم العنصرين، ينالون من وطن علّم الأوطان كلها، يجلدون من هم فى القبور والأحياء منهم فى مدن الموتى وعلب الصفيح، يهينون الفلاح فى أرضه والعامل فى مصنعه، والمرأة تكنس وتغسل فى قعر دارها. جميعا علَّموا وربَّوا وكبَّروا، أتموا الرسالة وأدوا الأمانة، إنّا عرضنا الأمانة، الأمانة دين فى أعناقنا، الوكالة الاجتماعية تمت لنا، صرنا ألسنتهم التى لا تنطق، وأقلامهم التى لا تكتب، أغلبهم أميون، وسواعدهم التى تنهض، كفونا صغاراً، وعلينا أن نكفيهم كبارا، لا نعيّرهم بجهل، لا نلومهم بقعود إن قعدوا كرها، لا تطلبوا منهم ما لا يطيقونه، ما لا يفهمونه، ما لا يجيدونه، لا تطلب من الوالد ما يستطيعه الابن، لا تطلب من الشيخ ما يقدر عليه الشاب، لا تطلب من الأم ما تجيده ابنتها، لا تقفوا من الأجداد موقف المعلم ومن العلماء موقف العالم، لا تلقوا عليهم دروسا فى الوطنية وهم من رضع لبنها وطحن تحت ضرسه حباتها، لعقوا جراح النكسة والنكبة، وبذلوا دما من أجل استعادة التراب المقدس. لا عصمة إلا لنبىّ ولا قداسة إلا لله الملك القدوس، لا نطلب لهم قداسة ولكن نطلب للشعب المصرى بعضا من الاحترام من الكتبة الجدد، نطلب الترفق بالشعب الطيب من الثوار الجدد، بعضا من الفهم لطبيعة الشعب الجميل، شعبنا ليس خانعا ولا ساجدا ولا راكعا، شعبنا فقط طيب، بياكل اللقمة مغمسة بعرق العافية، ويبوس إيديه وش وضهر، ويدعو حمدا على الفقر، اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال، شعبنا كده، لا بيغير ولا بيتغير، سيبوا الطيبين فى حالهم.