مثلما تفعل الشامة علي الخد، جسمها المنسق ميز جمالها. كان يراها في أيام السوق، كثيرة الحركة والمعارف، يراقبها من بعيد، أعجبه جسمها، أثاره وأسال منه اللعاب. كانت ترتدي ثوبا خفيفا أخضر ليموني، فوق الفستان مطرز بالورود، بدت كأن بستانا تفتح فيها شذيا وريحانا. تهيب الأمر في البداية، فهو غريب في هذه البلدة، لايريد أن يغامر بمركزه. كانت تمشي أمامه، تبعها لفترة، ثم لحق بها: -كيف. -كويسه. -اليوم سوق الخميس زحمة. -آآي الناس كتار. -شن سموك؟ نظرت إليه من خدها وابتسمت. -ليلي.. -ساكنين وين ياليلي؟ نظرت إليه مرة أخري بنفس الطريقة وابتسمت. -عاوز تعرف؟ -أأي.. -في حي القوز. -هنه كمان عندكم قوز! -يا ود الناس الشمالية دي كلها قيزان.. -ظاهر عليك ما من هنه. -أأي ما من هنه. -من وين؟ -من أم درمان. سارا علي مهل في السوق يتبادلان نظرات الرغبة والابتسامات مع الكلمات، رغم انه خجول أمام الأنثي، هذه المرة كان جريئا الي حد أخذ موعدا بعد المغرب بالقرب من الاجزخانة- الصيدلية. تجول في السوق لوحده، بعد أن ذهبت هي، اشتري كمية من البرتقال وأخذه الي بيت مدير الفرع، حيث يسكن هذه الأيام، سافر المدير مع أسرته في اجازة، ترك هو السكن في ميز الموظفين وتحول ليسكن لوحده في هذا البيت الكبير المكتمل الأثاث، هنا في البيت الكبير لازمته الوحدة، اشعلت فيه نارا لم تنطفيء إلا بدعوة خاصة لتناول المرطبات. مازال الود بينه وبين الغرابة متصلا، فهو عضو رسمي في الميز في كل الوجبات وجلسات الونسة المسائية وممارسة القهقهة بلا انقطاع، لا يفرق شملهم إلا النوم، يأتي الي هذا البيت الفسيح لينام مع صديقته الوحدة. في هذا اليوم عليه أن يعود الي البيت بعد الغداء مباشرة، لترتيب أوضاعه، وأيضا للاختفاء عن الأنظار قبل وقت كاف. بعد اعادة ترتيب فرش الغرفة، وكراسي الصالة، وضع سلة الفواكه علي الطرابيزة في الوسط، احضر البارد وأودعه في الثلاجة، اطلق بخور الند في الغرفة، أخذ دش وهو يناجيها ويراقصها حتي تدفق الشوق مع ماء الحمام.. دوائر.. دوائر.. أخذ قفوه. بدأت الشمس تستعد للرحيل لتفسح المجال لليل ينتظر قدومه بصبر نافذ، والشمس تتمهل وتتلفت في مشيتها نحو الغرب. سمع طرق علي باب الحديد- باب الحوش: -كو.. كو.. كو. ظنه باب الجيران، تكرر الطرق، لم يكن ينتظر أحدا ليأتي اليه في البيت، من ينتظر لا يأتي الي البيت ويطرق الباب بهذا الإلحاح، موعدهما بعد المغرب قرب الاجزخانة، عليه أن يذهب ليقابلها هناك ثم يحضران معا. يتواصل الطرق: -كو.. كو.. كو. وصاحبنا لايجيب، فليظن الطارق انه غير موجود في البيت، لانه في مثل هذه الأوقات يكون في حضور مستمر مع العزابة والعزوبية ومزاجها الذكوري، يوم قرر أن يكسر الحاجز ويعبر الي الضفة الأخري.. يبحث عن الثياب الملساء.. المليانة.. المبخرة، يأتيه هذا الطارق مثل القدر. يتواصل الطرق بقوة أكثر: -رو.. رو.. رو. سمع صوت الطارق يناديه من الخارج. قرر فتح الباب، لا يجدي الاختباء، هذا الزائر لا مفر منه. فتح الباب وجد نائب المدير ينتظره في العربة. -أهلا.. ياريس.. أتفضل. -كنت نايم ولا شنو. مشيت الميز قالوا من الغداء ما شافوك- قلت أكيد هنا. -آآي كنت نائم.. اتفضل.. اتفضل.. خير إن شاء الله. -خير.. خير.. -أرح اركب. -علي وين إن شاء الله؟ -هنه قريب.. -نمشي وين؟ -قريب هنه قلت ليك.. -ياخي المغرب قرب، وأنا فتران، خلي المشوار دا مرة ثانية. -يلاه.. اركب يازول بلا فتران بلا كلام فارغ. -نمشي وين لكن؟ -ارح بوريك بعدين. -ياخي المغرب قرب.. -اركب ارح، حنرجع قبل المغرب. -طيب اقوليك حاجه خلي المشوار دا بعد العشاء. -لا اركب.. اركب ياخي.. لم تفلح كل محاولات التملص والاعتذار. -طيب طلما أنت مصر كده، خليني اندرع لي في جلابية والف العمة. -جلابية شنو.. وعمة شنو هدومك دي بتوديك. -والله.. نظر الي هيئته من أعلي إلي أسفل، كان يرتدي عراقي خفيف وسروال طويل، يفوح منهما عطر مختلط برائحة بخور الند. تذكر الموعد، أخذ نفس عميق، أخرجه من صدره دفعه وحدة، ثم أردف قائلا: -انتظر.. عاد الي البيت لبس الجلابية فوق العراقي، لف العمة وأحكم لفها وخرج. ركب العربة، انطلقت بهم من أمام البيت والشمس في وضع مائل في اتجاه الغرب. سأله في الطريق إلي أين؟ لم يجيب بأكثر من هنه قريب. واصلت العربة سيرها الي ان خرجت من البلدة.. في اتجاه الشمال قال له: -ماشين هنه قريب.. آآه.. -رد عليه، ماشين زيارة لواحد في مدينة الخندق. -ضحك.. لم يقل شيء.. سكت ساكت. يتأمل قرص الشمس وهو في اتجاهه ليلامس الصحراء، التي ترقد علي مد البصر غربا وشرقا لطريق ترابي تنهبه سيارة الجيب ذات القمرة الواحد نهبا، هي أشبه بي بيك آب كبير الحجم من فصيلة الجيب صحيح، لكنها قبيحة المنظر، وظهرها حار، لذلك سميت هنا بتاتشر! تعطلت لغة الكلام بينهما، والعربة مسرعة علي الطريق الترابي، مع دقداق ومطبات الشارع والسرعة، اذا لم تتماسك جيدا فإن رأسك وسقف القمرة يكون العناق بينهم مستمرا.. لأن حظك العاثر أوقعك علي تاتشر.. لسان حالك يقول الجابني شنو.. لجأ لنفسه يونسها: -يعني الزائر اللزقة دا كان لازم في يوم زي دا يركبنا تاتشر! -ليلي علوي حقتنا مالاه.. كانت العلاقة بينهم علاقة زمالة عمل، لم يكن الود بينهما مفقودا تماما، لكنهما لم يكونا صديقين حميمين بحكم وضعهم الاداري في الفرع، الفاعل ونائب الفاعل، كانا مثل الأخوة الأعداء، أو الأقرب الي زميلين متعاونين، لذلك استغرب هذه الزيارة المفاجأة. في الطريق أخبره مستضيفة في الرحلة انهما في طريقهما لزيارة شيخ المسيد في الخندق، زيارة المسيد، هذه مفاجأة لم تكن متوقعة، لماذا لم تخبرني من قبل؟ واصل صمته وواصلت العربة انطلاقها علي الطريق، عند الغروب وصلا مسيد الخندق، بعد صلاة المغرب رحب شيخ المسيد بالزوار، تفقدوا متحف الخلوة الصغيرة التي توثق لجذور المسيد الضاربة في عمق التاريخ. كانت الدهاليز والأعمدة تضفي هيبة وجمال، رغم ان المبني صغير وعتيق، إلا أنه مفعم بالأجواء الدينية، التي لها رائحة وطعم خاص. المدينة ذاتها، موقعها بالقرب من النيل، مبانيها العتيقة، مبني الشرطة، الذي يعود الي قرون خلت شوارعها، كلها، عبارة عن متحف قائم علي الطبيعة. في طريق العودة، صادفا معلمتين من حيهما، تبرع راكب القمرة الوحيد بمقعد المقدمة للفتاتين، علي ان يمتطي هو صهوة الصندوق، لكن الفتاتان رفضتا ركوب العربة علي حساب أخذ مكانه، أما ان يركبوا معا في القمرة او لايركبا العربة، اصبح ركوب الثلاثة معا في كنبة القمرة مع السائق هو الخيار المتبقي. -جاين من وين؟ سأل الفتاتين. -عندنا ندوة هنه. -وانتم عندكم شنو هنه؟ -جينا زيارة للمسيد. وابتدأ الحوار... مع بداية الليل السيارة تسير في الطريق الترابي علي مهل والقمرة تتمايل كالمحمل علي ظهر الجمل، يبدو مثل »امريء القيس« هو، الا انه مخاصر بالثياب الملساء.. المليانة.. المعطرة. ورويدا.. رويدا الأجساد المكدسة في ذلك الحيز، كانت كالذاهبة في حركة الجسد الواحد شبهة الدائرية مع رزم الموتور الي آفاق روحية بعيدة.. بعيدة.